دينا عبدالفتاح تكتب.. الأسواق الناشئة.. والتنازل عن منطق «رد الفعل»!
دينا عبدالفتاح
هدف القيادة السياسية رفع الصادرات إلى 100 مليار دولار ليس حلماً بعيد المنال.. وتحقيقه يدعم التوظيف الأمثل للموارد في مصر
إن مستهدفات الحكومة المصرية بتحقيق 100 مليار دولار عائدات تصدير ليست حلماً بعيد المنال، بل يمكن أن يكون هذا الرقم هو بداية الانطلاق والتشغيل الحقيقى لقدرات الاقتصاد المصرى، التى تحول دون تأثر الاقتصاد المصرى بتلك المتغيرات على الساحة العالمية، بتغيير ركيزته الأساسية من الاقتراض واستثمارات الأموال الساخنة إلى الاستغلال الأمثل للموارد عبر التصنيع والتشغيل والإنتاج، خصوصاً بعد قيام الدولة المصرية بإعادة تهيئة شاملة على صعيد الخدمات اللوجيستية والاستثمار الحكومى غير المسبوق بكافة المرافق
العالم بأكمله بات فى حالة ترقب للتحركات والسياسات المتوقع إقرارها والنتائج المترتبة عليها، والتى من شأنها إحداث تغيير جذرى فى النهج الاقتصادى لحركة تدفق الأموال عالمياً، وفقاً لما فرضته متغيرات تطلبت اتخاذ سياسات ذات طبيعة مختلفة.
وكما هو الحال دوماً على مدار تاريخنا الإنسانى، تظل الدول الناشئة هى الأكثر عرضة للتأثر الشديد بأى تغيير طارئ على الساحة الدولية، ومما يزيد شدة هذا التأثر وقوع معظم الاقتصاديات الناشئة تحت وطأة سياسات إصلاح هيكلية تجعلها غير قادرة على اتخاذ أى سياسات استثنائية، أو التحرك بحرية لمواكبة هذه المتغيرات، بسبب خضوعها لبرامج إصلاحية ممنهجة ومحددة المعالم والخطوات لإحداث إصلاح اقتصادى يُخرجها من أزماتها التاريخية الموروثة ويدمجها فى المنظومة العالمية لحركة الاستثمار والأعمال العالمية.
اقتصاد العالم في قبضة التضخم.. ورفع الفائدة الأمريكية 4 مرات في 2022 يعيد رسم تنافسية أدوات الدين العالمية
الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تواجه واقعاً اقتصادياً جديداً فرضته معدلات التضخم المرتفعة التى وصلت لمستوى قياسى سجلت خلاله 7%، وهى النسبة الأكبر للتضخم منذ 40 عاماً، مما دفع الرئيس الأمريكى إلى التأكيد بأن خفض هذه المعدلات هو الأولوية القصوى للحكومة الأمريكية مهما تكلف الأمر، لما يمثله ارتفاع التضخم من خطورة بالغة على النسيج الاقتصادى والاجتماعى لأكبر دولة فى العالم، قررت الولايات المتحدة اتخاذ سياسات استثنائية تتطلب رفع سعر الفائدة 4 مرات متتالية، وتشير التوقعات إلى بدء التحريك فى مارس المقبل، وهو أسرع توجه لرفع سعر الفائدة منذ 2009 خلال الأزمة المالية العالمية.
وتوقع صندوق النقد الدولى حدوث تأثيرات عميقة نتيجة الارتفاع المتوالى لسعر الفائدة الأمريكية مع ارتفاع تكاليف التمويل والاقتراض، مما سيدفع الحكومات، خصوصاً فى الدول الناشئة، لتقليص الإنفاق من أجل السيطرة على عجز المالية العامة، مما قد يهدد التعافى والنمو الاقتصادى الهش أصلاً، كما ستشهد الدول النامية ومنخفضة الدخل ارتفاعاً فى معدلات الدين إلى الناتج، جرّاء انخفاض كبير فى ناتجها المحلى الإجمالى.
«التصدير والصناعة» بوابة مصر لموارد دولارية مستدامة وتحرير السياسة النقدية بعيداً عن حسابات الأموال الساخنة
وفى الحقيقة يبدو أن الدول النامية قد تواجه مشكلات أعمق من تلك التى أشار إليها صندوق النقد الدولى، والمتمثلة فى تغير قواعد اللعبة فيما يخص حركة الأموال الساخنة التى كانت تعتمد عليها الاقتصاديات الناشئة كمورد دولارى رئيسى لتمويل نفقاتها، فقد بدأت هذه الأموال فى تغيير وجهتها، لتترك الأسواق الناشئة بعد أن فقدت ميزة الفائدة المرتفعة بعد تغيير الولايات المتحدة لقواعد اللعبة، وبدأت هى الأخرى المنافسة على اجتذاب هذه الأموال، وبالفعل تركت الأموال الساخنة النقاط التقليدية لها لتتوجه نحو القوى العظمى لتبدأ مغامرة جديدة وفق معطيات سوق متغيرة، إضافة إلى أن التوقعات العالمية بزيادة الطلب العالمى على الدولار الأمريكى بمعدلات قد تصل إلى 20% ستضع العملات الأخرى تحت تهديد واضح، خاصة عملات الأسواق الناشئة التى ستعانى انخفاضاً حاداً فى اللعبة العالمية الجديدة، مما قد يضطر هذه الاقتصاديات إلى رفع أسعار الفائدة لديها، فى محاولات يائسة منها لمجاراة ومنافسة السوق الأمريكية على الأموال الساخنة.
وعليه أعتقد أن الدول الناشئة، ومن بينها مصر، لابد أن تستعد لهذه المتغيرات بسياسات غير تقليدية وبرامج إنقاذ تتواكب مع قواعد وتنافسية السوق العالمية الجديدة، وتمكّنها من استخدام هذه الظروف لصالحها، وتحول دون حدوث انتكاسة للنجاحات المتوالية التى حققها الاقتصاد المصرى خلال السنوات الماضية، خصوصاً فى ظل ضخامة الالتزامات الواقعة على عاتق الحكومة المصرية تجاه الدين الخارجى البالغ 137.420 مليار دولار بنهاية سبتمبر 2021 وفق آخر بيانات البنك المركزى المصرى.
فمصر تواجه تحدياً جديداً فرضته سياسات الواقع الاقتصادى العالمى، تتطلب إقرار سياسات مرنة وغير مسبوقة تضمن استمرارية التدفق الدولارى عبر خطة تحفيزية سريعة ومرنة تعمل على تعزيز قوة الصناعات التصديرية ورفع عوائد مصر الدولارية من التصدير القائم على الإنتاج والتشغيل والاستغلال الأمثل للموارد والتوسع فى الصناعات التى تحقق أعلى قدر من القيمة المضافة.
تمتلك مصر مقومات راسخة تضمن لها التفوق والريادة فى القطاع الصناعى إذا تم تذليل العقبات التى حالت خلال عقود ماضية دون الانطلاق الحقيقى الذى يتناسب مع قوة هذا القطاع.
ففى السنوات الأخيرة، قامت مصر بإعادة هيكلة شاملة لمنظومة بنيتها التحتية واللوجيستية التى تؤهلها لرفع معدلات صادراتها على نحو غير مسبوق، من شبكة طرق حديثة ومتطورة، وتطوير شامل وغير مسبوق للموانئ المصرية على كافة المحاور الاستراتيجية للدولة، بالإضافة إلى تمتعها بميزة سعرية تنافسية فى ظل انخفاض نسبى فى تكاليف الإنتاج إذا ما قورنت بالأسواق المنافسة، ناهيك عن الميزة التنافسية الأخرى الناتجة عن كم الاتفاقيات التجارية والتسهيلات التى تربط مصر بكافة التكتلات والتجمعات الاقتصادية بالعالم، كما تمتلك ميزة تنافسية نسبية فى عدد من القطاعات الصناعية، منها الصناعات الغذائية والهندسية والكيماويات ومواد البناء والصناعات التحويلية.
كما أطلقت الحكومة المرحلة الثانية من البرنامج الوطنى للإصلاحات الهيكلية الذى يركز على رفع تنافسية ثلاثة قطاعات رئيسية، هى الصناعات التحويلية والحاصلات الزراعية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بهدف زيادة مساهمتها فى الناتج المحلى الإجمالى، ووجود طلب كبير عليها بالأسواق المحيطة.
إن مستهدفات الحكومة المصرية بتحقيق 100 مليار دولار عائدات تصدير ليست حلماً بعيد المنال، بل يمكن أن يكون هذا الرقم هو بداية الانطلاق والتشغيل الحقيقى لقدرات الاقتصاد المصرى، التى تحول دون تأثر الاقتصاد المصرى بتلك المتغيرات على الساحة العالمية، بتغيير ركيزته الأساسية من الاقتراض واستثمارات الأموال الساخنة إلى الاستغلال الأمثل للموارد عبر التصنيع والتشغيل والإنتاج، خصوصاً بعد قيام الدولة المصرية بإعادة تهيئة شاملة على صعيد الخدمات اللوجيستية والاستثمار الحكومى غير المسبوق بكافة المرافق، وتم ذلك بالتوازى مع إقرار ما يلزم من السياسات التشريعية وبرامج المساندة والمحفزات التصديرية التى تضمن لمصر تحقيق نمو مذهل فى هذا المجال.
يجب على الحكومة المصرية القفز فوق أى عائق يحول دون رفع القدرة الصناعية والتصديرية وتوفير حلول فورية لكافة المشكلات التى تواجه منظومة التصدير فى مصر لتمكين آلاف المصدّرين من عودة نشاطهم وجذب مستثمرين جدد فى هذا القطاع.
فإذا افترضنا، وفقاً لما هو متداول، أن إجمالى حجم الأموال الساخنة المستثمرة فى أدوات الدين الحكومى قصيرة الأجل فى مصر يتراوح ما بين 22 و25 مليار دولار تقريباً، فإن انتهاج البلاد لسياسة سريعة مرنة لتحفيز وتنفيذ برامج تصديرية مدروسة يمكنه أن يحقق دخلاً يغطى كل الآثار السلبية لخروج الأموال الساخنة، بل إن مصر لن تكون فى حاجة إليها أو إلى إقرار سياسات نقدية ضارة وغير ضرورية من أجل جذب هذه الأموال.
كما أن نجاح منظومة التصدير المصرية، وفق المرتكزات القوية التى نفذتها الدولة طيلة السنوات الماضية، يجنبنا إنهاك الاقتصاد بأسعار فائدة مبالغ فيها لمواصلة اجتذاب وإغراء الأموال الساخنة للدخول إلى السوق المصرية كحلول مؤقتة غير فعالة أو مجدية على المدى المتوسط أو الطويل، بل يمكنها تكبيد الاقتصاد خسائر طائلة تقف أمام تحقيق أهداف كبيرة واستراتيجية.
الحل ليس فى مزيد من الاقتراض، ولا إعادة جدولة الديون، ولا فرض ضرائب جديدة على عائق المستثمر والمواطن، الحل يكمن فى إعطاء الأولوية للتفوق الصناعى، وفى إجراءات استثنائية تضع أولوية الإنتاج القابل للتصدير على قمة مهام الأجندة الوطنية.
نحتاج إجراءات بلا هوادة لفتح جميع الأبواب وتسخير كافة المقدرات التى تملكها الدولة المصرية للتصدير، خطة إنقاذ ترتكز فى المقام الأول على فتح موارد دولارية مستدامة تضمن للدولة المصرية استقراراً مالياً حقيقياً واندماجاً لائقاً بالاقتصاد العالمى.
لقد نجحت مصر فى إنهاء العديد من الإصلاحات، رغم المصاعب الداخلية والخارجية، والآن لا بد أن ننتقل لمرحلة جنى الثمار، عبر تذليل العقبات لانطلاق حركة رؤوس الأموال والاستثمارات الوطنية.
ورغم تغيُّر الظرف العالمى وتحرك الاقتصاديات الكبرى لإنقاذ نفسها على حساب الجميع، فإن هذه المتغيرات لن تؤثر بالسلب إلا على الدول التى لا تملك حلولاً وليس لديها خطط سوى الاعتماد على معطيات المجتمع الدولى والتسليم المطلق لإرادته، أما تلك التى تملك حلولاً ذاتية تجنبها تقلبات الدهر، فهى بمنأى عن تلك الآثار، استناداً على ركيزتها الراسخة من الاستثمارات القائمة على التشغيل والإنتاج والتصدير وتوفير مواردها الدولارية عبر قوتها الذاتية من خلال إدارة مقوماتها ومواردها على النحو الذى يجنبها التأثر بمشكلات الآخر وعثراته.
إن الدولة التى حققت النمو وسط عالم يجر خيبة التباطؤ، ونجحت فى الاستقرار وسط محيط مملوء بالاضطراب، واستطاعت النهوض بعد عقد مشحون بالتحديات، بإمكانها، بإرادة سياسية واقتصادية وتنفيذية، أن تجد الحلول لتفادى أى أزمة وتحويلها إلى فرصة.