في ذكرى رحيل عندليب التمثيل.. حكاية أول لقاء جمع أحمد زكي والشيخ الشعراوي
أحمد زكي
كان قرويًا ساذجًا حين جاء إلى القاهرة للمرة الأولى، لكن أضواءها لم تبهره، حيث قرر أن يغمض عينيه ولا يفتحهما إلا حين يصل حيث محل «مدام فوزية حجازي»، وبعدها قرر أن يغامر ويسير وحده في شارع عماد الدين ليشاهد أفيشات الأفلام، وأنهى جولته سريعًا ثم عاد إلى بلدته، وأدرك أنّ عالمه الحقيقي سيكون في هذه المدينة، وأقسم أنّه يومًا ما سيتوقف من يعبرون هذا الشارع أمام أفيش يتصدره اسمه «الفنان أحمد زكي».
السيرة الذاتية لـ أحمد زكي
أحمد زكي عبدالرحمن بدوي، من مواليد الزقازيق في 18 نوفمبر عام 1946، جاء إلى الدنيا يتيمًا، واضطرت والدته للزواج وتركته في رحاب جده وخاله، لكنه تغلّب على مشاعر الوحدة التي عاشها في طفولته بالاختباء في ساحات السينما الثلاث الموجودة في بلدته، والتي كانت بوابة الأحلام التي منحته فرصة الهروب من الواقع الذي يعيشه، حيث كان شديد الاندماج مع ما تعرضه الشاشة الكبيرة، لينسى بها ما يحدث خارجها، لكنه كان يشعر بالخوف حين يُعرض مشهد لقطار، فيضطر لإغماض عينيه، لاعتقاده أنّه سيخرج من الشاشة وتدهس عجلاته المتفرجين.
أولى زيارات أحمد زكي للقاهرة
جاء أحمد زكي إلى القاهرة للمرة الأولى وعمره 10 سنوات، كان مطلوبا منه أن يحضر ملابس المسرحية التي يقدمها طلاب مدرسته الإعدادية، استقل القطار وجاء إلى العاصمة، لكنه شعر بالخوف من الزحام الشديد في شوارعها، وكان مطلوبًا منه –حسب الوصفة- أن يستقل «التروماي»، وحين جلس على مقاعده وشاهده يخترق حشود البشر في الشوارع.. زادت مخاوفه، فقرر أن يغمض عينيه حتى يصل إلى محطة الهبوط، وكان عليه أن يبحث عن محل «مدام فوزية حجازي» ليتسلم ملابس المسرحية، وحين وصل إليها طلبت منه الانتظار لتجهيز طلبه، فقرر أن يخوض مغامرته الأولى.
تناول «زكي» أول وجبة في القاهرة في مطعم بالشارع ذاته، ثم قادته قدماه نحو شارع عماد الدين، ليشاهد أفيشات الأفلام المعروضة في السينمات، ومنها نجم الكوميديا إسماعيل ياسين يقدم «إسماعيل ياسين في البوليس»، العندليب عبدالحليم حافظ والدلوعة شادية في فيلم «دليلة»، ملك الترسو فريد شوقي في فيلم «رصيف نمرة 5»، نجمة الاستعراض تحية كاريوكا في فيلمي «سمارة وشباب امرأة»، ملك العود فريد الأطرش في فيلم «ودعت حبك».
كان عدد الأفيشات يتجاوز 30 فيلمًا، وشعر الطفل القروي حينها بالخوف لأنه ابتعد كثيرًا عن محل الملابس، فعاد ليتسلم أمانته، وغادر مسرعًا إلى محطة القطار، لكن أدرك أنّ المدينة هي عالمه الحقيقي، وأقسم أن يعود مرة أخرى، وأن يتحدى الجميع ليتصدر اسمه أفيشات السينما، ليجبر من يعبرون الشوارع على التوقف أمام اسمه «الفنان أحمد زكي».
حكاية مشهد «القاتل الندل».. أول ظهور لـ أحمد زكي
التحق الشاب الأسمر أحمد زكي بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وتخرج في دفعة مايو 1972 بتقدير جيد جدًا، لكن علاقته بالوسط الفني بدأت في أول أعوامه الدراسية، حين اختاره أستاذه المخرج سعد أردش بصحبة محمد صبحي للمشاركة في مسرحية «مدرسة المشاغبين»، وكي لا يضطرا للانتظار 10 أشهر لحين الانتهاء من تجهيز السيناريو، قرر أن يلحقهما بمسرحية كان مطلوبًا تصويرها للتليفزيون، وهي مسرحية «هاللو شلبي»، والغريب أنّ دور الشاب الأسمر كان «كومبارس» ينطق جملة واحدة (والنبي خدوني أمثل معاكم) ثم يغادر المسرح.
فوجئ «زكي» في أحد الأيام خلال العرض قبل أن يغادر خشبة المسرح بعد أن نطق جملته المعتادة، بالفنان الراحل عبدالمنعم مدبولي يجيبه: «تعالى.. مش انت عايز تمثل.. فرجني»، وقتها أدرك أنّ أستاذ التمثيل قرر اختبار قدرته على الارتجال، فقدّم المشهد الشهير «القاتل الندل»، ومشهد تقليده لمحمود المليجي، وجرى تثبيتهما في المسرحية.
شارك أحمد زكي في مسرحية مدرسة المشاغبين، فكل من عرض عليه تقديم شخصية الشاعر اليتيم «أحمد» رفضها، ظنًّا منه أنّ الدور لن يحقق أي صدى، وأنّ جمله الحوارية في العرض قليلة، لكن بعد تصويرها في التليفزيون انتبه له الجمهور، حيث ظهر بجوار أبطال العرض في جميع المشاهد، وهو نفسه اعتقد أنّ دوره وكأنّه أصبح أكبر في التليفزيون.
لم يخجل الشاب الأسمر من الاعتراف بأنّه «بينه وبين المسرح تار»، لأنه منحه الظهور لكنه لم يمنحه فرصة حقيقية لإثبات نفسه كممثل، فحتى دور «كمال» في مسرحية «العيال كبرت»، رُشح له 3 نجوم ورفضوا، وكان يفترض أن يكون الأخ الأكبر، وبعد إسناده للشاب الأسمر تقرر أن يكون الأخ الأوسط لكنه الأكبر برجاحة عقله، وهو ما كان يلخصه بجملة «رشحوا أحمد زكي للدور عشان يبقي الكبير بعقله».
أول حادث تنمر لـ أحمد زكي في الوسط الفني
كان أحمد زكي طالبًا مجتهدًا خلال سنوات دراسته، وعقب تخرجه حرص أساتذته على ترشيحه لأعمال كانوا يرونها تناسب موهبته، وهو ما فعله المخرج علي بدرخان، الذي رشحه لدور «إسماعيل» أمام سعاد حسني في فيلم «الكرنك»، وتواصل معه وأبلغه أنّ منتج الفيلم ممدوح الليثي متحمس جدًا له، لكنّ شخصية عربية كان لها تأثير على توزيع الفيلم طلبت استبعاده لأنّه «أسود.. ولا يصلح لدور حبيب السندريلا»، وطلب استبداله بنور الشريف، وعلم الشاب الموهوب بتفاصيل الحوار الذي دار بين المخرج والمنتج وصاحب قرار استبعاده، وعلمت سعاد حسني بالأمر أيضًا، فاستعانت بالكاتب العبقري صلاح جاهين، وقرر الثنائي تقديم فيلم «شفيقة ومتولي» ليكون أفضل دعم للممثل الموهوب الذي تعرض للتنمر في بداية مشواره، وارتبط الثلاثة فيما بعد بعلاقة صداقة استمرت طوال عمرهم.
الرئيس السادات يطلب مقابلة أحمد زكي
يعترف أحمد زكي أنّه مدين للتليفزيون، لأنه منحه أهم فرصتين في حياته الفنية والشخصية، أولاهما مسلسل الأيام عام 1979 مع المخرج يحيى العلمي، وهذا المسلسل كان سببًا في ترشيح الرئيس السادات له لتأدية دوره في مسلسل عن قصة حياته، كان يفترض أن يحمل اسم «رحلة البحث عن الذات»، ووقتها ذهب المخرج يحيى العلمي إلى الرئيس السادات لاطلاعه على تفاصيل مشروع المسلسل، وسأله إن كان لديه طلبات محددة فيما يخص فريق العلم، وكان رده: «المخرج هو رب العمل، لكن لو تقصد الممثل اللي هيعمل دوري، فأنا شايف ابننا اللي عمل مسلسل الأيام هو أفضل واحد يعمل الدور، لأنه يشبهني»، وطلب الرئيس السادات من المخرج أن يقابل أحمد زكي قبل أن يبدأ التحضير للمسلسل، وكان يفترض أن يتم اللقاء في فيلا بجوار الشيراتون خلال شهر سبتمبر 1981، لكنّ اللقاء تأجلّ شهرًا ليكون عقب احتفالات أكتوبر، لكن اغتيال السادات في حادث المنصة، أوقف مشروع المسلسل تمامًا.
الرؤيا التي جعلت أحمد زكي يقرر زيارة الشيخ الشعراوي
عاش أحمد زكي طفولة قاسية وفترة شباب صعبة، ولم يكن يملك من عوامل الصمود في وجه هذا العالم المتوحش سوى إيمانه بموهبته وقدرته على التحدي، كان يعيش من أجل الفن، لأنه وسيلة لإثبات أنّه ما زال على قيد الحياة، ولا يفكر سوى في الفن، لأنه بوابة الأحلام التي تمنحه فرصة الهروب من مشكلاته الحياتية، فكانت حياته الشخصية جافة المشاعر وخالية من الروحانيات، لكن في أحد الأيام الصيفية شديدة الحرارة، تعطل جهاز التكييف في شقته بالمهندسين، وظل يعاني الإرهاق والتعب جراء سهرة تصوير منهكة، إلى أن تملّكه النوم، لكنه نهض مفزوعًا لدرجة أنّه خرج للشارع مرتعدًا، وبملابسه الداخلية، وبعد دقائق عاد للشقة، وظل يفكر فيما رآه في نومه، كان يحلم وكأن شخصًا يشبهه يجلس على سقف الغرفة، وتتدلي منه خيوط تشبه غزل البنات، أحمد زكي الجالس على السقف كان يشعر براحة تعكس اطمئنانه للحالة التي يعيشها، وينظر بدهشة لأحمد زكي المكوّم على سريره وكأنّه طفل معاقب، وفجأة يتدلى أحمد زكي من السقف وكأنّه طيف يبتلعه الشخص الملقى على السرير، وكأنّ أحدهما روح تغادر الآخر.
الرئيس السادات رشحه لبطولة مسلسل عن قصة حياته وطلب مقابلته قبل حادث اغتياله
ذهب أحمد زكي إلى طبيب شهير وحكي له ما رآه في نومه، وكان تفسيره للأمر علميًا، يتعلق بإرهاق العمل وصعوبة الأجواء المحيطة بنومه، لكنه أراد أن يبحث عن تفسير آخر، فذهب إلى الشيخ محمد متولي الشعراوي، وحكي له ما جرى، فقال له «ربنا بيحبك.. ومنحك فرصة لترى ما لا يراه الآخرون» ونصحه بألا يتحدث في الأمر.
الغريب أنّ الرؤيا تكررت مرة أخرى عام 1986 حين كان أحمد زكي في لندن يجري عملية جراحية، وقتها عرف قبل دخول غرفة العمليات أنّ صلاح جاهين الذي يعتبره بمثابة والده «مريض»، فقرر أن يذهب للاطمئنان عليه، لكن تعذر تأجيل العملية، وفي اليوم التالي دخل غرفة العمليات، وبعد العملية ظل الجراح يرافقه إلى أن استعاد وعيه، ونقله إلى غرفة عناية مركزة، لكنه فتح على صدمة بسبب رؤية شاهدها، كان بطلها هذه المرة صلاح جاهين، جاء إليه وكأنّه طيف، جلس على السقف وظل ينظر إليه، حتى فتح أحمد زكي عينيه، وتبادلا الابتسامات، ثم ظل صلاح جاهين يدور حول المكان، وكأنّه يصنع من نفسه غزل بنات، وفي لحظة تبخر، وسمع شهقة تشبه خروج الروح من الجسد، ولم يتحدث النجم الأسمر لأحد بما جرى، وانتظر حتى عاد إلى القاهرة، وعلم أنّ «جاهين» توفى في اللحظة التي شاهده فيها بغرفة العمليات.
حكاية أحمد زكي مع نظرية غباء الحب
كان أحمد زكي لديه نظرية تلخص علاقته بالأشخاص والأشياء في حياته، ملخصها «غباء الحب»، كان يعتبر أنّ واحدة من مساوئ الحب الحقيقي هي التضحية بما تحب ومن تحب لتحتفظ بحبه، وتمنحه فرصة للاحتفاظ بحبه لك، أن تحرره منك.. لا أن تسجنه معك، أن تفكر في الأفضل له.. وليس لك، وبسبب هذه النظرية رفض أن يعيش مع والدته حين طلبت منه ذلك، لأنه يخشي أن يتأثر بمشاعره الطفولية حين تركته عقب زواجها، وفضل بعد أن أصبح نجمًا أن يلبي لها كل طلباتها عن بعد، وبسبب نفس النظرية طوى النجم السمر صفحة قصة عشقه المدهشة للفنانة هالة فؤاد، بطلة حفل الزفاف الأسطوري الذي حضره 500 نجم ونجمة ليباركوا قصة زواج عبقري التمثيل وصاحبة الملامح الملائكية، لكن «غباء الحب» جعله يقرر الانفصال بعد علاقة زواج استمرت عامين، بل وترك نجله الوحيد «هيثم» يعيش معها لأنه كان يحبه بشدة، ويرى أنّ بقاءه مع والدته هو الأفضل له.
السيرة الذاتية لـ أحمد زكي
يمتلك أحمد زكي رصيدًا كبيرًا من التجارب الفنية المبهرة، وهو ثالث أكثر الممثلين وجودًا في قائمة أفضل مائة فيلم مصري، بإجمالي 6 أفلام، هي: «البريء، زوجة رجل مهم، الحب فوق هضبة الهرم، إسكندرية ليه، أحلام هند وكاميليا، وأبناء الصمت».
لكن الفتي الأسمر كان يعشق التحدي، ويبحث دائمًا عن الدور الذي لم يقدمه، وكان يؤمن بأنّ السينما هي وسيلته للحياة، وتمنحه الفرصة لتحقيق أحلامه، ويعرف أنّ هناك ثمنًا يجب أن يدفعه، وكان يدفعه بسعادة في تكرار زيارته لعيادات الأطباء، وتناول الأدوية المهدئة، ومحاصرة أمراض جسده المنهك من أعباء التقمص، لكنه ظل مخلصًا للسينما لآخر لحظة في عمره، وفارق الحياة في 27 مارس 2005 قبل أن ينهي آخر 4 مشاهد في فيلمه الأخير «حليم».