في ذكرى ميلاد الشيخ إمام.. أسرار 6 أغنيات لحنها لـ فايدة كامل ورشدي ولبلبة
إذاعة صوت العرب خصصت له 30 حلقة لتقديم ألحانه بصوت مشاهير الغناء
الشيخ إمام
كان الشيخ إمام عيسى صاحب تجربة ثرية في كل تفاصيلها، تجربة تجمع الشامي والمغربي، واليمين واليسار، لتصنع لصاحبها مكانة مميزة في تاريخ الأغنية المصرية، شيخ ضرير أبهر سميعة القرآن بتلاواته العذبة، وصاحب الألحان تغنى بها نجوم الطرب.. من فايدة كامل إلى محمد رشدي مرورا بـ لبلبة وليلى نظمي، ثم جاءت الخطوة التي جمعته بالشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم.. وجعلت منه ضيفا على الزنازين، وملهما في ساحات النضال السياسي داخل مصر.. وخارجها.
الشيخ إمام هو واحد من أبطال سيرة الأغنية المصرية، والسيرة بطبيعتها تختلف باختلاف الراوي، فهناك من يصنفه ضمن عمالقة الإبداع والنضال، بينما يراه آخرون مراهقا فنيا وسياسيا، تجربته يحملها البعض على الأعناق كشهادة تدين الأنظمة الحاكمة، بينما يراها اخرين دليلا على وطنية وصدق تلك الأنظمة، وأصحاب كلا الرأيين يرفض التسليم بأنها مجرد تجربة.. بدأت بعفوية وصدق، لكنها وجدت من ينفخ فيها لتصبح طاقة نور أو كرة لهب.
6 سنوات قضاها الشيخ إمام في حفظ القرآن.. والأغاني
الاسم إمام محمد أحمد عيسى، جاء إلى الدنيا يوم 2 يوليو من عام 1918، وكان والده بائعا متجولا يحمل فوق رأسه زجاج المصابيح، ويطوف شوارع قرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة بحثا عن الرزق، ولد سليما معافا، لكن في ظرف شهور فقد بصره، ووالدته التي لم يعش لها أطفالا قبله.. اعتبرت بقاءه على قيد الحياة نعمة تستحق الشكر، وكانت أفضل طريقة للشكر من وجهة نظر الأب أن يتفرغ هذا المولود لحفظ القرآن.
حمل الطفل (إمام) لقب شيخ منذ أن كان عمره 5 سنوات، بالتزامن مع انطلاق رحلته في الكُتاب لحفظ القرآن، وتمكن من اتمام حفظه خلال 6 سنوات، على يد الشيخ عبد القادر ندا رئيس الجمعية الشرعية بقرية أبو النمرس، وتوقع الأب وقتها أن يصبح نجله قارئ ذائع الصيت مثل قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت، الذي كان الصبي يعشقه بشدة، مثلما يعشق أغاني الأفراح، وموشحات الحج، التي ظل يلاحق جلسات ذكرها في بيوت القرية، وساحاتها.
جاء الشيخ إمام إلى القاهرة وعمره 11 عاما، ليتعلم فنون تجويد القرآن، وأقام بجوار ابناء قريته في حوش قديم بالغورية، وتحقق له ما أراد في عمر 15 سنة، ليتحول بعدها لقارئ محترف، يتلو آيات الذكر الحكيم في البيوت والمحلات، وفي إحدى المرات كان يقرأ في محل.. وعلم أن من بين السميعة الموسيقي الشهير الشيخ درويش الحريري الذي اثني على تلاوته العذبة، فذهب إليه القارئ الشاب ليعلن رغبته في اقتحام عالم الموسيقي والغناء، وتحقق له مطلب، وتعلم على يدي أستاذ أصول المقامات الموسيقية، وتدرب على الموشحات الأندلسية، ومن خلاله معله الجديد تعرف على مشاهير الموسيقي وقتها.. شيخ الملحنين زكريا أحمد وشيخ الإنشاد الديني على محمود، والشيخ محمود صبح أحد الملحنين البارعين، وتعلم من تلك الروافد الموسيقية الكثير، ولأنه كان يمتلك ذاكرة حديدة برع في تقليد أصواتهم وموسيقاهم.
فايدة كامل تعلن عن ميلاد موهبة الشيخ إمام
ظهرت المطربة الشهير فايدة كامل على خشبة المسرح، وكعادتها قررت أن تتحدث لجمهورها قبل أن تغني، وقالت:
(النهاردة ليلة مبروكة، ليلة تنطلق فيها للجماهير.. موهبة اختفت فترة طويلة، بمجرد أن قرأت عن صاحبها، بحثت عنه، والتقيته، الأستاذ إمام، وما سمعته منه هو فتح جديد للأغنية المصرية، وأنا لا ابالغ حين أقول فتح جديد، لأن فيه الموهبة الخالصة.. والمخلصة، ونحن نحتاج للموهبة الصافية، فشوائب الحياة لم تضف لها شيء ينتقص من بريقها وأصالتها، لن اتحدث كثيرا عن الأستاذ إمام، أحب أن يتكلم عنه عمله، ومن خلال عمله هتحسوا فعلا أنه إنسان كانت مصر تحب تعرفه من زمان).
توقفت فايدة كامل عن الكلام، وبدأت الفرقة الموسيقية تعزف لحن الشيخ إمام لكلمات الشاعر فؤاد قاعود (حي على الكفاح).
لم تكتف المطربة التي أصبحت فيما بعد عضوا في البرلمان، بل سارعت بإنجاز التعاون الثاني مع الملحن الصاعد عبر كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم (شوف الحكاية)، والتي غنتها بعد ذلك ليلى نظمي.
كلمات أغنية شوف الحكاية (عشق الصبايا)
شوف الحكاية يا ولد شوف الحكاية
عشق الصبايا يا ولد طوّل معايا
منهم هنايا يا ولد منهم أساياوهما جرحي يا ولد وهما دوا
يَزرع الوداد على غير ميعاد بقى شغلتي
أزرع وأبيع قبل الربيع من جنتي
وأحلف ما أتوب وان شاء الله أتوب في محبتي
دا الصبر طيب يا ولد صبرك معاي
لبلبة تغني ألحان الشيخ إمام
300 أغنية تحمل توقيع الشيخ إمام، وثقت الإذاعة المصرية غالبيتها في 30 حلقة، تم إذاعتها عام 1968 عبر برنامج (مع ألحان الشيخ إمام) بمحطة صوت العرب، من إعداد وتقديم الكاتب الكبير رجاء النقاش، وإخراج أحمد الجبيلي، وكانت الإذاعة بصفة عامة في ذلك الوقت هي أقوى سلاح إعلامي، وإذاعة صوت العرب خاصة هي أقوي أسلحة جمال عبدالناصر لمخاطبة الشعوب العربية، وحشد الجماهير، وظهور ألحان الشيخ إمام وكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم عبر ميكرفون الدولة المصرية.. كان من منطلق الإيمان بموهبتهما ودعم أبداعهما.. بل وتصدير تجربتهما للخارج.
كانت حلقات البرنامج تبدأ بتتر يغنيه الشيخ إمام، وتقول كلماته (بعد السلام والمرحبة، يا ولاد بلادنا يا طيبين، نفرش كلام المصطبة، واضح لكل السامعين)، بعدها يأتي صوت المذيع الكاتب الكبير رجاء النقاش، ليتحدث عن موهبة فنية غير عادية، ستضيف الكثير للساحة الغنائية المصرية، ليفاجئ جمهور الإذاعة يوم الخميس 21 ديسمبر 1968 بملحن كفيف يعرض في أول حلقات البرنامج 3 أغنيات، بدأت بموال (الأوله بلدي) كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، ثم أغنية (التفرقة العنصرية) كلمات الشاعر محمد جاد، والأغنية الثالثة بعنوان (عمي السيد) من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم.
في الحلقة الأولى من برنامج (مع ألحان الشيخ إمام) ظهر الشيخ الكفيف وحيدا، يعرض ما تيسر من موهبته، لكن في الحلقة رقم 30 وهي الأخيرة من عمر البرنامج، أعلن المذيع الكاتب الكبير رجاء النقاش، عن أغنيتين لـ(لبلبة) من ألحان الشيخ إمام، وكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، وهما ( شعبان البقال، والخواجة)، وقال مقدم البرنامج إن لبلبة نجحت في تقدم عملين مميزين، لصاحب الموهبة الكبيرة في الأغنية الساخرة والناقدة للأوضاع الاجتماعية، واختتم المذيع الحلقة بتوجيه الشكر لمن ساهموا في إخراج هذا اللون الفني.. من جلسات الاصدقاء ليصل إلى المستمعين.
نص أغنية لبلبة (شعبان البقال)
شعبان البقال/ عقبال الأنجال
اتوظف واتنظف/ واتعدل له الحال
من بعد الجلابية/ والفوطة الدبلان
في رقبته المهرية/ من هبش الأكلان
والدوخة الأزلية/ والنوم في الدكان
بقى صاحب عربية/ وعمارة وسكان
تلاقيه للصبحية/سهران على الكونكان
وينام للعصرية/ كبقية الأعيان
وسألت الخضرية/ وبتوع الدخان
على الحكمة الإلاهية/ في نظافة شعبان
وعرفت إن أخانا/ شعبان أبن بهانة
اتجوز فنانة.. قال/ واتعين فنان
كلمات أغنية لبلبة (يا خواجة يا ويكا)
يا خواجة يا ويكا، يا خواجة
يا بتاع أمريكا، يا خواجة
يا حرامي العامل، يا خواجة
جوا الفبريكا، يا خواجة
يا بو عقل محجر، يا خواجة
وسرير هزاز، يا خواجة
اسمع يا سي بعجر، يا خواجة
يا حرامي الغاز، يا خواجةتعرف ما تعتب، يا خواجة
خطوة الناحية ادي، يا خواجة
راح نكسر رجلك، يا خواجةوالظالم بادي، يا خواجة
وحنمسح خبرك، يا خواجة
مسحت استيكا، يا خواجة
ونكتب على قبرك، يا خواجة
دقي يا مزيكا..
ليلى نظيم تغني من كلمات نجم وألحان الشيخ إمام
انضمت ليلى نظمى لقائمة المطربين الذين تغنوا بكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، وألحان الشيخ إمام، وكان من نصيبها أغنيتي «ساعة العصاري وشوف الحكاية يا وله».
وجاءت كلمات أغنية ساعة العصاري كالتالي:
ساعة العصاري يا نسايم
والبحر نايم وانا هايم
ماشية الحليوة وخلخالها
يحكى الحكاية اللي في بالها
يا أبو البنية صبرك شوية
ادى الكحيلة لخيالها
البنت قالت أشوف بختى
وكفاية في الحب مناهدة
واعرف نصيبي عشان يا أختي
يطمن الحب ويهدا
قال الودع لما حكى لها
على الحكاية اللي في بالها
يا دي الصبية صبرك شوية
وادى الكحيلة لخيالها
ساعة العصاري يا نسايم
والبحر نايم وأنا هايم
ماشية الحليوة وخلخالها
يحكى الحكاية اللى فى بالها
يابو البنية صبرك شوية
ادى الكحيلة لخيالها
والحلوة قالت يا نصيبي
هات العَدَل ولا تستعجل
ده العمر مهما هيمشي بي
هتروق وتحلى وتتعدل
والحرة تلبس خلهالها
لايق عليها وحلالها
يا أبو البنية صبرك شوية
وادى الحكيلة لخيالها
ساعة العصاري يا نسايم
والبحر نايم وانا هايم
ماشية الحليوة وخلخالها
يحكى الحكاية اللي في بالها
يا أبو البنية صبرك شوية
ادى الكحيلة لخيالها
محمد رشدي كان من الفائزين بأغنيتين من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، وألحان الشيخ إمام، هما «الغربة، ودلى الشيكارة».
كلمات أغنية الغربة يا غربة روحي
يا غربة روحي روحي
لا تحطي على سطوحي
وسطوحي يطلع فدان
والفدان يحتاج مروى
والمروى عرق الانسان
والإنسان يحتاج ثروة
والثروة ف غيط الفلاح
والعامل صاحب المفتاح
والمفتاح يفتح جنة
والجنة فيها الحنة
يا حنة يا محنية
عشقوكي الجناينية
زرعوكي خضرة خضرة
م البدرة للقطفية
وعجنوكي حمرة حمرة
للسمرة والخمرية
والسمرة طرحت بستان
والبستان لا بس فستان
والفستان طاقه طاقه
أحمر أخضر يا رفاقه
ورفاقي يا كل الناس
من كل الناس والأجناس
ع الحنة واقفين حراس
والحنة على سطوحي
يا غربت روحي
روحي
كلمات أغنية دلي الشيكارة
دلي الشيكارة.. واقعد يا حفني ولع لك سيجارة
فكر شوى.. في العيشة دية
ايه القضية أيه العبارة
من صغر سني.. شقيان لكني
ما لط سنى غير البصارة
ودخلت حارة.. من جوه حارة
وفي كل حارة علية عمارة
وسط المعاول.. بناء ومناول
بس المقاول.. أكلني بشطارة
ولا خلى صرة.. ولا لقمة حرة
والعيشة مرة.. أخر مرارة
دلي الشيكارة.. جمب الشكارة
أقعد يا حفني.. ولع لك سيجارة
حواديت الشيخ إمام خارج الوطن
كان الشيخ إمام هائما في عالم الموسيقى، يغني في كورال كوب الشرق أم كلثوم، ويعيش برقة الملحن الشهير الشيخ زكريا أحمد، لكنه حين ألتقى الشاعر أحمد فؤاد نجم عام 1962 قرر أن يمسك العود، ليصيغ أول ألحانه، (أنا أتوب عن حبك)، وخرج بعدها مارد الفن من قمقم الشيخ الضرير، ووسع دائرة معارفه ألحانه فقدم مع الشاعر نجيب سرور (البحر بيضحك ليه)،
و(أهو ده اللى صار) التي كتب كلماتها بديع خيري، ولحنها وغناها سيد درويش، كما لحن (يا مصر قومومي وشدي الحيل) من كلمات الشاعر نجيب شهاب الدين، ولحن وغنى (جيفارا مات) من كلمات أحمد فؤاد نجم، ولنفس الشاعر لحن وغنى (كل عين تعشق حليوة).
ويحسب للكاتب الكبير رجاء النقاش أنه نجح في الخروج بهذه التجربة الغنائية.. من جلسات المثقفين إلى الجمهور، عبر برنامجه الإذاعي، الذي أعقبه تنظيم أول حفل جماهيري للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في نقابة الصحفيين، نهاية عام 1968، وحشد رموز الفن والثقافة والمجتمع لدعم موهبتهما، وتجربتهما.
لكن هناك من التقى الملحن الصاعد في اليوم التالي، وعرض عليه 25 ألف جنيه، قال إنها هدية تعارف، لكن الشيخ إمام تشكك في العرض، ورفضه، لكن سرعان ما جاء من باريس من يحمل عرضا جديدا، إنتاج أول أسطوانة للشاعر الشاب والملحن الصاعد، وكان صاحب العرض ذكيا هذه المرة، وقال إنه لن يستطع دفع أي مقابل مادي لهما، فكان هذا السبب مبررا لقبول العرض، لأنه يتوافق مع صدق وعفوية صاحبا التجربة الحماسية، ولم يعلما أن الدعاية الترويجية لهذه الأسطوانة في عاصمة النور كانت تحت شعار (أغاني في مواجهة الديكتاتورية).
ما حدث في باريس لم يختلف كثيرا عما حدث في دولة عربية ارادت أن تعزز صورتها باعتبارها قلعة الحريات، واستضافة الشاعر والملحن لأيام، قدما فيها حفلات حققت صدى كبيرا، ومع خروج مقر جامعة الدول العربية من مصر، انهالت العروض العربية على الشاعر والملحن.. وجرى الترويج لتجربتها باعتبارها الغطاء الشرعي للحرب الباردة ضد مصر، وإتهام نظامها بجرائم الهدف منها النيل من مكانته الإقليمية، وتم تهيئة كل الأجواء ليقتنع الشاعر والملحن بأن ما يفعلانه أكبر من أن تكون مجرد تجربة فنية، وعزز من تلك الصورة الحشود الجماهيري المتعطشة للانتصارات السياسية وليست الفنية.
كان الشيخ إمام يؤمن بمقولة (لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر، ولن تأكل التمر حتى تأكل الجمر)، وكان أبو النجوم يؤمن بأنه نصير العمال والفلاحين في الأرض، وكلاهما كان عفويا ومخلصا في مشاعره وإنتاجه الفني، وكلاهما كان سندا لرفيقه، وهو ما أزعج مستضيفيهما في الخارج، وسعوا لفصلهما عن بعضهما، تسهيلا لدفع كل واحد منهما إلى الأهداف المنشودة، وسرعان ما أدرك (نجم وإمام) أن ارتباطهما ببعضهما.. يشبه ارتباطهما بالوطن، لذا قررا العودة لتجربتهما المشتركة، والعودة أيضا إلى مصر.
الشيخ إمام عاد لوطنه، ومسكنه القديم، وظل فيه حتي فارق الحياة، وتكرر السيناريو ذاته مع الشاعر أحمد فؤاد نجم، والفارق أن أبو النجوم عاد للكتابة، لكن الشيخ إمام عاد ليصحح أخطاؤه، ويمنح نفسه ويمنحا فرصة إعادة اكتشاف تجربة أصبحت عتبة مهمة من عتبات الفن المصري، والانتصار لها هو انتصار للفن المصري.