الدكتور جمال عبد العظيم يكتب: ورحل الفارس.. علم الدين
د. جمال عبد العظيم - أستاذ الإعلام وعلوم الإتصال بجامعة القاهرة
الدكتور محمود علم الدين أستاذ علوم الاتصال والإعلام، لم يكن فارسا في ميادين الرياضة، إنما كان قائدا للفرسان في علم الاتصال، وهو مجال أشق وأصعب، هو رجل من طراز فريد علما وإنسانية، ورائد مدرسة المستحدثات في علم الاتصال، افتقدناه جسدا في الأيام الخالية، لكننا لم نفقده اسما وعلما وقيمة، ما إن انتهيت من كتابة مقال عن مدرسته العلمية ضمن سلسلة علماء الاتصال العرب، التي آليت على نفسي كتابتها وإبراز أصالتها، إلا وأجد القدر يجبرني على الدوران للخلف، وأوجه أفكاري ومقالي فى اتجاه آخر، هو خبر رحيله، الذي ما تخيلته أبدا رغم تواصلي المستمر معه وهو في فراش المرض في السنة الأخيرة.
ما إن تقترب سيارته من مبنى كلية الإعلام إلا وتجد (عم جودة) حارس مكتبه والقائم على رعايته، يهم مسرعا - حبا فيه - ليلتقط حقيبته من سائقه الشخصي، ويفتح باب مكتبه محضرا له فنجان قهوته التركية المعتاد أن يرشفه كل صباح مع سيجاره الشهير، فتشعر أنك أمام باشا من باشوات الثلاثينيات رفيع المقام، سامي الألفاظ والكلمات.
اتسم علم الدين بالحرص على التقاليد الأكاديمية، وهيبة العالم وقدسية المكان ، فكلما جلست معه بمكتبه بالدور الأول بكلية الإعلام، تشعر برهبة محرابه العلمي، حيث التقاليد والأصالة العلمية وإخبارك بما لم تسمع عنه من الجديد في علم الاتصال، إلى جانب شخصيته الهادئة الخجولة ذات الوجه المبتسم، الحريص على أناقة الملبس وعبقرية المظهر والقوام الممشوق، ليذكرك بالفارس حين هبوطه من على ظهر جواده.
حرص علم الدين على تعقب كل جديد في علم الاتصال لينقله لتلاميذه على امتداد الوطن العربي، فكانت هذه هوايته واهتمامه الأول، ولذلك كانت مدرسته سباقة بالتبشير بالمستحدثات التكنولوجية منذ بداية الثمانينات من القرن العشرين، وبنقل الاتجاهات الحديثة في علم الاتصال، ثم صحافة الإنترنت وعولمة الاتصال وما بعد الحداثة وصحافة الهاتف المحمول وصحافة البيانات والذكاء الاصطناعي، وأخيرا ريادة الأعمال ذلك المجال العلمي الذي أنتج فيه آخر كتبه وهو على فراش المرض قبل رحيله بأربعة أشهر.
لم يهتم علم الدين كثيرا بمغريات السفر خارج وطنه، أو تقلد المناصب ، فكان اهتمامه الأول هو الإنتاج العلمي وإثراء المكتبة الإعلامية العربية، لذلك ما كان يمر عام إلا ويعلن عن صدور كتاب جديد أو نشر دراسة علمية رصينة، أنتجها إما بمفرده أو برفقة شريكة حياته عالمة الاتصال العربية الكبيرة الدكتورة ليلى عبد المجيد، عميدة كلية الإعلام السابقة، إضافة لحرصه على زيادة الأبحاث العلمية الإعلامية عبر تشجيع تلاميذه بإشرافه على رسائلهم للماجستير والدكتوراة ومشاركته في لجان الحكم والمناقشة على امتداد وطننا العربي.
لم يكن علم الدين يضن على تلاميذه وزملائه بعلمه ونصائحه، مهما بعدت المسافات، وطال عدم اللقاء ، فكثيرا ما أجد دراسة مرسلها لي في بريدي الإلكتروني، مرفقة بنصيحة للاستفادة منها، لأنها في مجال اهتمامي العلمي، أو نسخة من آخر مؤلفاته، مدونا عليها إهدائه الراقي الذي يعلي فيه من مكانة تلاميذه.
إن تلاميذ علم الدين ينتشرون في كل مدرسة إعلامية وأكاديمية عربية، لذلك اكتظت شبكات التواصل والصحف ووسائل الإعلام العربية بخبر رحيله، وما من قسم للإعلام إلا ورثاه أعضاؤه، حيث سبق وقدم الخير للجميع وفتح الله أبواب الرزق على يديه للمئات من الممارسين الإعلاميين، والأكاديميين الذي كان متواصلا معهم باستمرار، ومشاركا في أفراحهم وأطراحهم.
عرف علم الدين بثبات خطه السياسي والفكري، وهو الخط الوطني الداعم للدولة المصرية في كل مراحلها، ذلك الخط الذي آمن به الغالبية العظمى من المصريين، ولذلك اتسم فكره بالاعتدال والوسطية والحرص على المصلحة الوطنية وعلاقات مصر القوية مع أشقائها العرب.
رحل علم الدين، لكن بقيت مدرسته وكتبه واسمه وعلمه، لينهل منه الدارسون وينير الطريق للآلاف من الباحثين والإعلاميين على امتداد وطننا العربي، تغمده الله برحمته وغفرانه، جزاء هذا الإرث العظيم الذي تركه لينتفع به الناس.