مستقبل الثروة الحيوانية في مصر إطلالة على معوقاتها المنسية
د. على الغندور
مصر بوصفها الواحة الأكبر والأكثر كثافة فى العالم، يعيش السواد الأعظم من مواطنيها على فيض ضفتى نهر النيل، فى مشهد يبدو فيه التكدّس السكانى وكأنه الظل الظليل، فيضيق الظل، حيث يضيق النهر، ويتّسع إذا ما تباعد فرعاه فى الرمق الأخير عند المصب، مُشكِّلاً دلتا مصر، وفارضاً ديموجرافيا تاريخية وآنية، جعلت الإنسان والنبات والحيوان يتنازع ثلاثتهم رقعة محدودة، تنكمش بفعل النشاط السكانى المتزايد، أو هى فى أحسن الأحوال تتزايد ببطء وبكلفة عالية. الأمر الذى جعل الزراعة بشقها النباتى، عملياً، عاجزةً عن تحقيق اكتفاءٍ ذاتى من السلعة الأكثر استراتيجية، وهى القمح. وعلى نحو يغاير النشاط النباتى، فإن الإنتاج الحيوانى قد حقق اكتفاءً ذاتياً من سلع استراتيجية أخرى، مثل لحوم الدواجن، وبيض المائدة، وألبان الشرب. مما يشى بمقومات هائلة يمتلكها ذلك النشاط، تجعله مؤهّلاً لجعل مصر الواحة الأكبر لإنتاج البروتين الحيوانى للمنطقة. غير أن الأمر الذى يتطلب حُسن التخطيط لتوليفة النشاط الحيوانى فى مصر، على خلفية معضلة المياه العذبة، قديمها وحديثها، والسيناريوهات المحتملة لما هو قادم، بالتوسّع فى النشاط الحيوانى الأكثر كفاءة فى استخدام المياه العذبة، والأعلى كفاءة فى تحويل حبوب الأعلاف، المستوردة فى معظمها. وفى ضوء ذلك، يأتى استزراع أسماك المياه المالحة، ومن ثم أسماك المياه العذبة فى مقدّمة الأنشطة الأكثر كفاءة فى إنتاج البروتين الحيوانى (جالون مياه، ١.٢ رطل علف). ويأتى الإنتاج الداجنى تالياً (٢٠٠٠ جالون مياه، ٢.٣ رطل علف). بينما متأخرة تأتى ماشية التسمين واللبن (٢٥٠٠ جالون مياه، ١٣ رطل علف).
وفى ظل حقيقة أن صناعة الإنتاج الحيوانى فى مصر تُعد صناعة تجميع، فمكونات الصناعة فى مجملها، يتم استجلابها من الخارج كالماشية وجدود الدواجن، وخامات علفية، وعلاجات وغيرها، فتصبح من الصعب المنافسة فى السوق العالمية، غير أن مكوناً واحداً محلياً، لم يتم استثماره بالشكل الأفضل، وهو المكون الأهم، وهو العنصر البشرى. وعدم استثماره سيقف حائلاً دون ذلك النمو المتسارع فى الصناعة. ويكفى أن أدلل على كلفة إهمال هذا العنصر لسنوات طويلة، بخسارة سلالات محلية من الطيور والماشية، مثل الجاموس المصرى، والطيور المحلية، التى تُقدّر بالمليارات لو أُحسن الاستثمار فى العنصر البشرى فى الجهات المعنية بتطويرها والحفاظ عليها. وبسبب ذلك، يتكبّد القطاع الخاص فى مصر سنوياً، أكثر من ١٨ مليون دولار لاستيراد عدد محدود من الكتاكيت (أقل من ٣٦٠ ألفاً من جدود الدواجن، بسعر يقارب ٥٠ دولاراً للكتكوت عمر يوم!!)، فضلاً عن ماشية اللبن، والتسمين التى تُعد مصر المستورد الأكبر لها، والتى تكبّد الدولة مليارات الدولارات.
إن العنصر البشرى تم تجريفه وحرمانه من دوره الأساسى فى تطوير هذه الصناعة المهمة لعدة أسباب، أولها حالة الجزر المنعزلة التى تعيشها الجهات المعنية، وذات الصلة، فمعاهد البحوث الزراعية المنوط بها بحث وتطوير ودراسة المشكلات الخاصة بالإنتاج الحيوانى، فى حقيقة الأمر، متخلفة عنه بعشرات السنوات، ومعظم الباحثين هم حبيسو دائرة مغلقة، بعيداً عن التطور الحادث فى مواطن الثروة الحيوانية فى القطاع الخاص، منكفئين على إجراء أبحاث شكلية بإمكانيات ضعيفة للحصول على درجات علمية هى فى الأساس إدارية، هدراً لطاقات كبيرة.
كما أن الجامعات المصرية بكلياتها المعنية، هى الأخرى منعزلة، منشغلين بتوفير احتياجاتهم والترقى الوظيفى، وما يتطلبه من أبحاث فى أغلبها لا تمت إلى الواقع بصلة، تحت وطأة قصر ذات اليد، وضعف الإمكانيات.
ويمكن لوزارة الزراعة أن تلعب دوراً محورياً فى بناء جسور من التواصل بين القطاع الخاص، ومعاهد البحوث الزراعية، والجامعات المصرية لصالح الصناعة. إذ يجب الاستفادة من القدرات العلمية والإمكانيات المتوافرة فى معاهد البحوث (ستة عشر معهداً بحثياً، وإحدى وثلاثين محطة بحثية، وأكثر من خمسين كلية زراعة وطب بيطرى)، بتحويلها ولو جزئياً، إلى محطات أبحاث وتطوير للقطاع الخاص، يتكفل هو بالتمويل المالى لها، على أن تدار بلجان مشتركة من خبراء بالحقل وباحثين وأساتذة وعلماء، تقوم بتشخيص المشكلات، ووضع الأهداف ومراقبة الأداء والإنفاق.
*خبير بالسوق المصرية ومنطقة الشرق الأوسط