بيسان محمود الكردوسي تكتب: كيف أصبحت أنت «الحكاية» دون قلم؟!
بيسان محمود الكردوسى
«قلت: ما أنا بكاتب.
قال: أنت موهوب. أنت خفاش عجوز، بائس، يتخبَّط وحيداً فى عتمة الكتابة.
قلت: الكتابة شقاء.
قال: الكتابة كنز لا يفنى.
قلت: الكتابة إذا لم تجرح وتؤلم.. عبث يؤذى.
قال: الكتابة أم الانتحار؟
قلت: الكتابة انتحار. لاحقتها حرفاً فكلمة فسطراً فجسداً فاتناً، مكتملاً، فجوعتنى وعرتنى، وشردتنى، وأحوجتنى، وأغشت بصرى، وهدت حيلى، وأعيت حيلتى، وكنت أظن أننى صاحب رسالة». من كتابه: (حكاية وقلم).
تلك هى الحكاية؛ حكاية أبى، رحمه الله، مع القلم، أو بالأصح مع الكتابة، عشقه ومركز توازنه النفسى والوجدانى، كانت تكمن داخله أسئلة بلا نهاية وجدل يبحث عن يقين، ليَنتُج عنها إبداعاته النابعة من ذاك الصوت الذى يصرخ داخله ويتخطّى صوت العقل.. لكنه لم يكن يعلم مدى قوة حضور روحه فى الكتابة، بتفاصيلها التى لا يجيدها أحد مثله.
عَشِقَ الحياة بكل ما تحمله الكلمة من معنى منذ الصِّغَر.. بالرغم من نشأته فى بلدة نائية مكتظة بالمآسى والأحزان، خاصةً أحزان الموت وغضب الثأر، وغلظة العادات والتقاليد، وجفاف المشاعر والأحاسيس، التى نراها فى كل ثوب أسود ترتديه امرأة أو أم لا يفارق قلبها القهر، إلا أنه كان دائماً يبحث عن الحياة ومعناها بحب.
لم يكن ليستمر والدى العزيز فى الكتابة، ويتأنَّى فى صياغتها كما نعرف، إلا لكى يصل إلى حقيقة العالم من حوله، كى يتَّصل به، مما كان يهوّن عليه الاتصال بذاته، والحقيقة التى بداخله، فى جوهره الساطع بالنقاء، الذى يعكس ضوءه أينما وُجِدَت إحدى كتاباته، وهى دائماً ما تكون مُحمَّلة بالرسائل. فلم يقرأ أحد أياً من كلمات كتبها والدى، اتَّفق معه أم اختلف، إلّا وأعجب وأشاد بها وقال فيها شعراً. كان دائماً يحاول إيجاد الإجابات الدبلوماسية لأسئلتهم الحائرة، حيث لا وجود للحقيقة المطلقة، مهما حاول أحد آخر إقناعه على فعل عكس ذلك، كان مُحباً لجميع تفاصيل الحياة، أكثرها تفاهة، وأكثرها عُمقاً، وكان باحثاً عن الحقيقة فى كل لحظة عايشها، وكل محطة مر بها فى حياته، مهما كانت الظروف ومهما استعصت عوامل النجاح.
والدى الغائب الحاضر.. أحب أن أعبّر لك عن مدى فخرى الشديد بك طوال حياتى، ستبقى الشمعة التى تضىء ظلمة الأيام، ستبقى الأمل الذى يحفزنا على البقاء، وأتمنى فى يوم من الأيام أن أحقق أمنياتك التى لم تكتمل، وأن أحذو حذوك، فأنت قدوتى ومصدر إلهامى.. لقد أديت رسالتك بالفعل يا «كردوسى».