من بين عشرات المقالات الصحفية التي تناولت مسيرة الفنان محمد منير، يبرز مقال الكاتب الراحل محمود الكردوسي، كتحفة فنية أبدعها بمحبة خالصة متحدثاً فيه عن صديق عمره، وشقيقه (الجنوبى) الذى جمعته به جذور وملامح وأفكار مشتركة، تنتسب لحضارة وادى النيل العريقة.. و«الوطن» إذ تحتفى بالفنان الكبير تعيد اليوم نشر هذا المقال الذى نشره محمود الكردوسى على صفحات الجريدة فى 23 مايو 2012.
تأتى على الواحد لحظة يضطر فيها إلى تضييق الحبل حول رقبته، والوقوف عارياً أمام نفسه: «قلبى جوه يغنى لجراس تدق لصرخة ميلاد تموت حتة منى لجراس بتعلن نهاية بشر من العباد». تأتى على الواحد لحظة يسأل فيها نفسه: هل يثور فيفوز بإحدى الحسنيين، أم يسكت فينفد بجلده؟ لا هذه ولا تلك.. ومع ذلك: «لو بطلنا نحلم نموت لو عاندنا نقدر نفوت لو عدينا مرة خلاص لو ردينا ضاع الخلاص».
تأتى على الواحد لحظة يفقد فيها ثقته فى نفسه.. لفرط ما حوصر وطورد وانتُهك وتألم، فلا يجد ملاذاً سوى أشيائه الأولى: «أميرة عاقلة.. فى الحجلة.. العقل يطير كانت صغيرة بضفيرة.. كان هو صغير ساعة ما تلعب مع أخوها.. تلاقيه بيغير.. ولما ترفع قلتهم.. تلاقيه عطشان». هذه إذن لحظة مواتية تماماً، هاربة تماماً. البلد على الحافة، لا ينهض ولا ينهار، والناس نيام، والأيام نداولها بيننا أغنية تلو أغنية: «دى الحكمة قتلتنى.. وحيتنى.. وخلتنى.. أغوص فى قلب السر.. قلب الكون.. قبل الطوفان ما ييجى.. خلتنى.. أخاف عليكى يا مصر.. وأحكيلك على المكنون».
هذا الصوت، هذا النوع من الغناء، هذا الجسم الممصوص، الداكن كلون الطين، هذا الشعر «الهايش» كابتهاج النجوع والكفور بالموت، هاتان العينان اللتان تلمعان كحجرين كريمين.. هذا ما أحتاج إليه تماماً، أنا الذى كنت وما زلت ألتهم العاصمة رصيفاً فشارعاً فجسراً ولا أشبع، وأحارب طواحين هواء: «بلاد ما اعرفش ناسها.. ولا عارفانى بيبانها.. ما ليش شبر فى أساسها.. ولا طوبة فى حيطانها.. وخطاويّا غريبة.. إيه يا بلاد يا غريبة».
هذا الصوت يعرفنى أكثر مما أعرفه وأعرف نفسى.. يبلورنى.. يميزنى من مليون.. يؤانسنى ويدفئنى ويبطن القلب بغلالة شك: «ده حزن ولّا وتر.. ده قلب ولّا حجر.. ده دمع ولّا مطر.. ما لى خايف خايف خايف.. وحاسس بالخطر».
هذا الصوت ثالث اثنين، أنا والبنت التى تبادلنى كبتاً بكبت، ونتقاسم اللقمة معاً: لى غضب أبيها ولها لهفة أمى، ثم نتوه -عامدين- فى شوارع العاصمة. لا مهر ولا شبكة. لا إرث ولا أفق. لا أرض ولا سقف.. نحن فقط وبلسان واحد: «قبل ما تحلم فوق.. احلم وانت فايق.. قبل ما تطلع فوق.. انزل للحقايق.. جايز حلم فى غمضة عين.. عايز يتحقق فى سنين.. وجايز يبقى الحلم اتنين.. وتحققهم قبل دقايق».
هذا الصوت زادنى جسارة واتزاناً. قالوا: «ديكتاتورنا عادل». قلت: لا يستقيم العدل والطغيان. قالوا: عليه «السلام». قلت: وعلينا وفاء فاتورته. قالوا: إذا كان الدين لله.. فـ«الوطن» لمن؟ قلت: «مين اللى عاقل فينا؟ مين مجنون؟ مين اللى مدبوح م الألم؟ مين اللى ظالم فينا؟ مين مظلوم؟ مين اللى ما يعرفش غير كلمة نعم؟ مين اللى محنيلك خضار؟ الفلاحين الغلابة. مين اللى محنيلك عمار؟ عمالك الطيابة.. مين اللى بيبيع الضمير.. ويشترى بيه الدمار؟».
هذا الصوت أعلى من قامتى وأسبق منى إلى ثمر الجنة، فأنا مدين لصداه بالوقوف على قدمين ثابتتين: لا خُنت ولا ارتشيت. لا بعت ولا اشتريت: «المهنة: بناضل.. بتعلم.. تلميذ فى مدرسة شعبية.. المدرسة فاتحة على الشارع.. والشارع فاتح فى قلبى.. وأنا قلبى مساكن شعبية».
هذا الصوت يشبه نصلاً ذا حدين، يجرح فى الحزن كما يجرح فى البهجة، وفى كليهما ألاحقه لأقتبس منه شعاراً أضعه تحت زجاج مكتبى، أو ضوءاً خفيفاً يبدد كآبة عصر المول والكليب والشاتينج والـ«يو تيرن» والـ«فيس بوك» والأفلام الشبابية والأكل المسرطن وطوابير الخبز والبنزين والأمن المركزى و«الإسلام هو الحل».. لكننى لا أستطيع أن ألمسه، فأعود وأنا أعزى نفسى: «بعد ما لفّ وبعد ما دار. بعد ما هدّى وبعد ما سار. بعد ما داب واشتاق واحتار.. حط الدبلة وحط الساعة.. حط سجايره والولاعة.. علّق حلمه على الشماعة.. شد لحاف الشتا على جسمه.. دحرج حلمه وقلمه واسمه.. دارى عيون عايزين يبتسموا.. اللى قضّى العمر هزار.. واللى قضّى العمر بجد.. شد لحاف الشتا م البرد».
هذا صوت عروسة النيل ويا ناس يا مكبوتة.. صوت يونس وعلى عليوة.. صوت القدس والجنوب والقلعة والإسكندرية.. صوت البلح الأبريم وشجر اللمون وبرج الحمام والمساكن الشعبية.. صوت الجيرة والعشرة وأم الضفاير وزرار القميص والمريلة الكحلى.. صوت الفل والياسمين ونعناع الجنينة.. صوت محمد منير: الأحلى حتى من.. طعم البيوت