«استراحة محارب»: «صوتى ليس حزيناً كما تقولين.. أنت فقط تعتقدين أن الغناء على قبرك لا بد أن يكون مبهجاً بعض الشىء!» محمود الكردوسى.ما الذى تغير فينا خلال عام بدون «محمود»؟.. تُرى هل أخذ معه ضحكاتنا البريئة وغضبنا النبيل وعناقنا للحلم المستحيل وتلك الجسارة التى كانت تمنح الكلمة تمردها، وتحوِّل الأقلام بين أصابعنا إلى «حيَّات» تتراقص فى يد ساحر؟هل انتزع منا حماقة العاشق وتركنا نلهو بلعبة «الكراسى الموسيقية»، هل سرق من قاموسنا كلمة «الصحبة» وخبأها بين خيوط كفنه لنتجمد فى أماكننا: نحترف الوحدة والعزلة والصمت.. ننظر إلى العالم «من أعلى» مثله.. ثم نغفو فى وطن، قد لا نملك فيه قبراً، لكننا نذوب فيه عشقاً.«الطيبون هكذا»: طبيعة مهجورة، وأسماء باهتة تشبه انسحاب نخيلها وبيوتها.. حزنهم حاد.. وآلامهم تتحلق حول أسرّتهم كمحاربين شرفاء، هُزموا بفعل خيانة آلهتهم.. ودائماً.. ليس فى حقائبهم سوى متاهة.. وعواميد نار.(يقال إن أكفهم المفتوحة لا تثبت بين خطوطها متع.. ولا تنبثق من توترها شعارات).. كلمات لم تُنشر لمحمود الكردوسى.هل كان لا بد أن يكتب بين موتين ويحيا بين جملتين ويغنى مجده وهو «مذبوح من الألم».. ويتجرع مرارة السخط والتمرد حتى يستكين.. أن يختزل عمره كله بين اسم وثورة: (السيسى -30 يونيو).. تفجَّرت تلك الموهبة التى كانت تتململ ضجراً من التحقق، انفجر «الكردوسى» كبركان لم يعرف بوصلة الهدف من قبل، وكأنه كان يكتب (نهاية عهد مبارك) فقط ليزعج السلطة القابضة على الحكم فى كسل وعنجهية.(هل تستحق ثورة 30 يونيو كل هذه القداسة؟.. نعم تستحق، لأنها «من عند الله». ولأن إرادة المصريين التى أشعلت شرارة هذه الثورة، موصولة بـ«إرادة الله». ولأن الجيش» الذى آمن بهذه الثورة وصانها قال فيه نبى الإسلام: «خير أجناد الأرض»).. ولهذا أصبح الكردوسى هدفاً لكل أعداء النظام واستخدموا ضده أرخص أساليب الخصومة و«طعنوه فى كبد»!
لم يترك لنا «محمود» فرصة للمزايدة على حزنه، ولا البكاء على قبره، لقد بكيناه مئات المرات حياً، وانتزع الأنفاس من صدورنا ونحن نراقب جسده يقاوم «الحياة» ليذهب سريعاً إلى حضن «أمه»: «أصبح عندى الآن قبر»!احترف «الكردوسى» الكتابة واحتكر اللغة وترك لى «رثاء يليق به».. ترك لى ضحكته الصافية حين يسخر من «فكرة الاحتراف» أو من أثاث منزلى وطبيب كلبتى: إنها «حياة مزعجة».. لم يعرف محمود الترف ولا الضنا إنه يعمل «بما تيسر من الموهبة» ويؤجل كل ديون الحياة ليسددها الورثة.. كانت «المناصب» تأتيه صدفة ويهرب منها ليعانق القلم ويكتب: الكلمة هى معشوقته الوحيدة.. تراوده عن نفسها، ربما يجنى منها مالاً أو شهرة، لكن ذلك «الانبهار» الذى يحيط به لم يأته إلا فى شهقة الموت!أشك فى أن «محمود» أحَب الحياة، فقط هو قرر أن ينازعها على سنوات معدودات.. أن يساومها على وقت يخلع عنه الاكتئاب ليكتب، أن يصارعها ليصرخ فيتجسد «الصعيد» فى آخر أنفاسه «ذائقة الموت».اليوم، فتحت أوراقاً تحمل رائحتك وخطك، تتراقص حروف سخطك وغضبك وعشقك.. تتكسر الذكريات حزناً على من سجّل بها أيامنا.. اليوم أحسست بالفراغ الهائل الذى تركته يبتلعنى.. ورأيت الرحلة التى بدأت معك تتم فصلها الأخير: (لا تقسُ على نفسك.. فالطيبون هكذا: لا يصلون إلى أماكنهم المفضلة.. إلا إذا تاهوا أو ماتوا.. ولأنهم يستحون عادة من أدوار البطولة.. من الصعب أن يتركوا أثراً أو وصية.. لكنهم لا يتأخرون أبداً).