يوسف القعيد يكتب: الثانوية العامة «بُعبُع» الطلاب والمدرسين والمجتمع كله
يوسف القعيد
لست أدرى متى بدأت شهادة إتمام الدراسة الثانوية العامة فى أن تتحول إلى قضية القضايا فى التعليم المصرى: هل كان ذلك قبل ثورة يوليو 1952؟ أم ما جاء بعدها فى ظل حالة الانتعاش والرغبة فى التعلُّم التى أعقبت هذه الثورة العظيمة؟ ولكننا هنا والآن نرى ظاهرة مجتمعية موجودة فى كل مكانٍ من بر مصر. فى الريف والحضر، فى القرى والمدن، فى العزب والكفور، وعواصم المحافظات والمدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية.
وقُبيل امتحانها كل عام نسمع حكايات لا أول لها ولا آخر عن الاستعداد لها. وكأنها شهادة آخر الدنيا. مع أن الأمر ربما يكون أبسط من هذا بكثير. صحيح أنها الفيصل بين التعليم الثانوى والتعليم الجامعى بشقيه النظرى والعملى ونظرة المجتمع لمن يدرس فى الجامعات تختلف عن نظرة المجتمع نفسه لمن يدرس فى المدارس.
فالجامعة مهما كانت مشاكلها وهمومها وصعوبات التدريس فيها. إلا أنها تبقى الجامعة. لدرجة أن الشهادة التى تمنحها تُسمى مؤهلاً عالياً. وهذا يجعلنا ننظر إلى ما دونها من شهادات بأنها الأقل. ولا يمكن وصفها بالعادية بأى حالٍ من الأحوال. يحدث هذا فى العزب والكفور والنجوع والقُرى والمدن الصغيرة والمدن الكبيرة من أول وجه بحرى حتى الصعيد الجوانى، ومن قلب سيناء حتى مرسى مطروح.
لدرجة أنها أصبح لها موسم خاص بها سواء فى انصراف الطلبة للمذاكرة، أو قيام سُرادقات الدروس الخصوصية عياناً بياناً وعلى مرأى من الشهود. رغم أن القانون قد يُجرِّمها ويجعل لها عقوبات رادعة. ولكن كل شىء مُمكن ومتاح من أجل الحصول على هذه الشهادة «الذهبية» التى تؤهل من يتحصل عليها لدخول الجامعة، وما أدراك ما الجامعة!.
لقد تغيَّرت وتبدَّلت أمورٌ كثيرة فى تاريخ التعليم المصرى، ولكن تبقى ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 التى أكدت الشعار الذى كان قد أُطلِق قبلها فى المرحلة الليبرالية الواقعة ما بين 1919 و1952 والذى يقول إن التعليم الأولى والمتوسط والعالى حق من حقوق كل مصرى، على الدولة المصرية أن توفر له المناخ المناسب لكى يتحصل عليه الطلاب.
وهكذا نحن الذين صنعنا القضية. وأصبحنا نعانى منها. وما من بيتٍ فى بر مصر إلا وتسمع من يعيشون فيه وأنت تمر من أمام أبوابهم أو نوافذ بيوتهم: «بُعبُع» الثانوية العامة. كان اسمها من قبل «التوجيهية»، ولكن غلب عليها بعد ذلك تعبير: الثانوية العامة. وأصبحت لها مواسم تتمثل فى امتحاناتها وانتظار النتائج، والأهم من نتيجة النجاح أو الرسوب هو المجموع الكُلِّى الذى يحصل عليه الطالب سواء كان تخصصه أدبياً أو علمياً. فتلك بوابة الجامعة.
لدرجة أن رموز مصر فى العلم والثقافة والأدب والفن أصبحوا يحرصون على أن يشيروا فى أحاديثهم، بعد أن يشتهروا وتعرفهم الدنيا كلها، إلى الأدوار التى قاموا بها فى اجتياز الثانوية العامة ودخول الجامعات حتى يتحصلوا على التعليم العالى. وما زلت أذكر حتى الآن كفاح أهل قريتى ونضالهم، وسبق كل ذلك أحلامهم فى أن تكون فى القرية مدرسة ثانوية. وكانت قد عرفت المدارس الابتدائية مدرسة عسران عبدالكريم بالضهرية بحيرة. ثم عرفت المدارس الإعدادية مدرسة أنصارى سمك الإعدادية التى أصبح جزء منها فيما بعد مُخصصاً للتعليم الثانوى.
وهكذا ترسَّخت فى مصر نظرة لمن يتخرج فى الجامعة تختلف تماماً وجذرياً عن النظرة لغيره من الشباب. فما بالك بمن ناقش الماجستير والدكتوراه بعد الشهادة الجامعية! وهكذا أصبح للثانوية العامة «هيلمان» وأى «هيلمان» هذا؟ وأصبحت مثل نظام الطبقات الذى كان سائداً فى مصر قبل الثالث والعشرين من يوليو سنة 1952، وأصبحنا نرى عند موقف السيارات والأوتوبيسات فى قريتى الطلاب الذين قُبِلوا فى الجامعة القريبة من قريتنا وكأننا نودعهم إلى رحلة المجد والفخار.
إن الكلمة الفصل بين تعليم وتعليم هى الثانوية العامة التى يُمكن أن تقول عنها بُعبُعاً أو مارداً مُخيفاً أو وسيلة من وسائل الفخر الاجتماعى فى إطار المجتمع الصغير والكبير. وهنا تساوت القرية بالمدينة فى النظر إلى هذه الشهادة التى طالما حيَّرت العقول والألباب.