عبدالرحمن قناوي يكتب: تشتغل في الوطن؟
عبدالرحمن قناوى
في 28 فبراير عام 2018 رن هاتفي وظهر اسم صديقٍ لم أحدثه منذ فترةٍ طويلة، منذ تملك مني اليأس وأصبت بإحباطِ دفعني لترك العمل في الصحافة قبل عامين، والعودة لقريتي الصغيرة للعمل في مهنة أخرى تركتها قبل عدة سنواتِ للعمل في الصحافة، التقطت الهاتف ورددت على صديقي الذي فاجأني بسؤالِ مباشرِ وصريح: «تشتغل في الوطن؟».
لم يكن مجرد سؤالٍ عادي أو اقتراحٍ طرحه صديقي القديم، صمتت عدة ثوانٍ مرت كأنها الدهر، شاهدت فيها شريط حياتي الذي بدا طويلا، رأيت ذلك الطفل المهووس بالصحافة منذ صغره، يبحث عن قصائص الجرائد القديمة ويتحسسها بانبهار ويشاهد صورها وكأنها من عالم آخر، يقدس المجلات ويرى أصحابها أبطالا أسطوريين لطفولته، ذلك الطفل الذي ندهته نداهة المهنة منذ خطت قدماه مدرسته في قريته الصغيرة النائية، فصار حاملا على عاتقه مهمة الصحافة والإذاعة منذ «أولى ابتدائي» وحتى «تالتة ثانوي».
رأيت الطفل الذي صار طالبًا متفوقًا حاصل على 97% علمي علوم، فقرر التنازل عن حلمه لتحقيق حلم عائلته بدخول كلية الصيدلة التي لم يستطع التكيف معها، رأيت نفسي بعد 5 سنواتٍ من دراسةٍ لا أحبها أسحب ملفي بكل هدوء منها، وأتوجه إلى حيث أحب، دراسة الإعلام والصحافة.
رأيت نفسي أبذل قصارى جهدي لأصبح صحفيا لامعا وأحقق حلم طفولتي وأعوض سنواتٍ ضاعت من عمري في دراسة لا أهواها، رأيت نفسي مثابرا مقاتلا وصل لمرحلة من الإحباط جعلته يتخلى عن حلمه مرةً أخرى ويعود للعمل في الصيدلة مهونًا على نفسه مرارة ضياع الحُلم بالدخل الجيد في مهنةٍ لا يهواها.
وجدت سؤال صديقي الفرصة الأخيرة لحلم قديم، لإحياء شغف اقترب من الموت، رددت على الفور: «أشتغل طبعا»، لأجد نفسي في اليوم التالي أشد الرحال إلى محافظة الجيزة، هنا في 16 مصدق بالدقي، وأطرق باب «الوطن»، حيث وافقت على نسيان سنواتٍ من العمل في المهنة وأبدأ متدربًا من جديد في قسم «المتابعة الخبرية»، حيث مصنع الصحفيين الحقيقيين.
هنا ولدت من جديد، عاد لي شغفي بمهنةٍ سكنت قلبي منذ نعومة أظافري، رُدت إليّ روحي التي سلبها مني اكتئابُ أحبطني وأعادني إلى قريتي الصغيرة، أتحمل الهمزات واللمزات عن «الواد المجنون اللي ساب صيدلة عشان يبقى صحفي»، هنا قررت التشبث بالفرصة الأخيرة، تعلمت ما لم أتعلمه من قبل، نهلت من خبرات أساتذة وزملاء كانوا لي خير العون والسند، حققت هنا ذاتي التي كادت أن تذهب بلا عودة.
5 سنواتٍ في «الوطن»، مليئة بالذكريات والحكايات، مليئة بليالٍ طويلةٍ من العمل الممتع، أتذكر فرحة أول موضوع في العدد الورقي، وأول ملفٍ حمل اسمي ومكالمات الأساتذة بعده مهنئيني لي، أول معايشةٍ لي في شهر رمضان تحت حرارة تبلغ 45 مئوية، متعة التخفي للوصول إلى خبرٍ أو تحقيق زاوية في موضوع، أول مكافأة إجادة وأول إشادة من الدكتور محمود مسلم رئيس التحرير، لحظاتٌ لا تنسى حولت حُلمي لحقيقة.
لم يكن سؤال صديقي في مكالمةِ لم تتخط دقيقتين إلا بوابةً خطوت من خلالها وتركت خلفي ماضيًا لا أرغب في تذكره، وسرت نحو مستقبلٍ كدت أيأس من الوصول إليه، لم تكن إلا طوق النجاة لشابٍ اقترب من حافة الانهيار، طوقٌ أنقذه من مصيرِ لم يكن يعلم إلى مدىً قد يصل به، كانت حبلًا تعلقت به لأصل إلى هنا، حيث نحتفل بمرور 11 عامًا على تأسيس «الوطن».. جريدةً وبيتًا ووطنًا حقيقيًا لنا.