حسام مصطفى يكتب: رحلة 404.. سينما الشخصيات الرمادية العالقة بين البينين
حسام مصطفى
ثلاث تجارب سينمائية صنعت اسم المخرج هانى خليفة، «سهر الليالى» إنتاج عام 2003، و«سكر مر» إنتاج عام 2015، و«رحلة 404» إنتاج عام 2024، ورغم أن الأفلام الثلاثة حملت أسماء مؤلفين مختلفين، فالأول للسيناريست تامر حبيب والثانى للسيناريست محمد عبدالمعطى، والأخير للسيناريست محمد رجاء، فإنها كانت بمثابة دوال كاشفة عن عقيدة سينمائية أو اتجاه سينمائى قرر المخرج هانى خليفة اعتناقه، تمظهر هذا الاتجاه فى سينما الشخصيات وحضور الزمن بطغيانه وفرض سيطرته بظلاله على تلك الشخصيات ووجهتها فى الحياة، ففى التجارب الثلاث تستوقفنا الشخصية.. قراراتها.. تحولاتها وما تبوح به وما تطرحه وتمثله من أفكار فطرية محملة بها وما هى مكتسبة، فى سياق موضوع بسيط ومألوف يبدو لوهلة شديد العادية نتوهم أحياناً أننا طالعنا سطوره من قبل أو شاهدنا مشاهده أو ربما توقعناه، لكن ذلك لا يؤخذ بمحمل الثغرة أو العيب، فهذه الألفة هى صورة من صور المرادفة لحالة التماهى مع الحكاية وأبطالها، التى يخلقها المخرج هانى خليفة بقصدية من خلال الانخراط مع ما هو ظاهر وسلس للتعلق بالشخصية وباطنها بتعقيداته وتتبع وتقفى أثرها، وتأمل صراعها الداخلى وهمس أعماقها.. ومشاجرات أفكارها وما ينطق به لسانها ثم قرارها الأخير، هذا الباطن الدفين يخرجه هانى خليفة من حالة الصمت إلى الضجيج فى حالة فيلمية خاصة تجسده وتخرجه من دائرة النمط إلى بعث جديد.
ليس فقط صراع الشخصية الداخلى هو المنطلق الوحيد لسينما هانى خليفة، ولكن أيضاً نظرته الخاصة للزمن الدائم الحضور فى أشرطته السينمائية، والذى يمثل عتبة للشخصيات مجرد عبورها تصل إلى محطة سلامها النفسى، وتتهيأ لقراراتها الأخلاقية، ففى سردية «سهر الليالى» يعقب تجمع أصدقاء قدامى خلافات مع زوجاتهم تكشف طبيعة العلاقات بينهم على أثرها يتجهون إلى مكان من الماضى فى رحلة لاستعادة الذكريات، تلك الرحلة الزمنية القصيرة يكشفون خلالها عما بداخلهم ويراجعون أنفسهم، ثم يقررون العودة من حيث أتوا وتولد الشخصيات من جديد، وفى «سكر مر» ليلة العام الجديد تمثل الحدود الزمنية فى تحولات الشخصيات، هذا الإطار الزمنى يمثل حالة من حالات التحايل السردى فى منطق وثب الشخصيات وتحولها دون الالتفات إلى تبريرها أو الحاجة إلى محاولة منطقتها، وهو ما يجعل شخصيات هانى خليفة صادقة مع نفسها، فالفرق بين الكذب والتبرير أن الكذب فعل نمارسه على الآخرين أما التبرير فهو ممارسة الكذب أيضاً لكن على النفس.
وفى أحدث أفلامه «رحلة 404» تعامل المخرج هانى خليفة مع الزمن بشكل مغاير عما سبق، تمثل فى حضور الماضى وهيمنته على شخصية البطلة التى تحاول تطهير صورتها القديمة، حيث تنوى «غادة» السفر لأداء مناسك الحج لكن تتعرض والدتها إلى حادث سير، على أثره تجد نفسها مطالبة بتدبير مبلغ مالى كبير لتسديد مصروفات علاج والدتها، فتبدأ رحلتها إلى الماضى بحثاً عن حل أزمتها، تلك هى الرحلة الحقيقية فى الفيلم رحلة «غادة» نحو ماض عالق فى نفسها لا نعرف إذا كانت اختارته أم اختارها، وبين حاضر تحاول أن تفرضه وتنجو به إلى مستقبل مجهول.
تلك الشخصية الرمادية العالقة بين هيئتها الجديدة وأفكارها وبين ماض مسيطر على أعماقها تعتقد أنها تخلصت من صورتها القديمة، ولكن فى الواقع ما زالت تحتفظ بشخوص الماضى.. لغتها القديمة، حتى مهنتها لم تختلف عما كانت تمتهنه فى الماضى، فمهنة الماضى والحاضر «بائعة» لكن ما اختلف هو السلعة التى تبيعها، ففى الماضى باعت نفسها وفى حاضرها باعت سلعة أخرى هى العقارات، إنما الثابت هو فعل البيع، حتى فى أزمتها لم تلجأ إلا للماضى.
حالة المراوحة التى تتقاذف شخصية البطلة بين ماضيها وحاضرها.. بين الحقيقة والواقع الفعلى وبين ما تظنه وتعتقده.. هذه المنطقة الوسطى التى تقف عندها البطلة فى رحلتها انتقلت إلى المتلقى بفعل التوحد الذى خلقه النمط السردى للفيلم، فبالرغم من أن الفيلم يندرج تحت أسلوب السرد الخطى فإن إثارة التساؤلات فى مرحلة Exposition (العرض) وهى مرحلة الاستهلال المعنية بعرض معلومات عن الشخصيات وعلاقاتها وعالم الفيلم وطبيعة المشكلة وشكل الصراع، خلقت نوعاً من ارتباط المتلقى بشخصية البطلة للوصول إلى الإجابات الخاصة بعلامات الاستفهام المطروحة حول أسباب تهرب غادة من والدتها.. وأسباب طبيعة علاقتها الصدامية مع والدها.. والسؤال الأهم من هى غادة؟ هذه المرحلة هى ما جعلت عدوى المنطقة الوسطى تنتقل إلى المتلقى ليجد نفسه على أعتاب الحد الفاصل بين عذر الشخصية وإدانتها.
يقدم هانى خليفة طرحاً إنسانياً يتوارى خلف حكاية بطلة الفيلم وشخصيات رحلتها، وعى الشخصية بجذور مشكلتها المنطلقة من علاقتها الخاصة بوالدها ووالدتها، حيث الأم المتطلبة والأب الذى لا يبالى بمن حوله يضاف إليهما السقوط بدوافع الحب وخذلان الحبيب وتخليه تسبب فى نشوء مخاوفها من ناحية والحماية من ناحية أخرى، فقد فرضت حمايتها على شقيقتها الصغرى حتى لا تتكرر مأساتها، نفس المنطق يتكرر عندما قررت أن تضحى بأمومتها وتجهض حملها حتى لا تأتى بطفل لأب مدمن، منظومة الأسرة تلقى بظلالها على الفيلم وتحديداً حضور صورة «الأم»، فالأم فى حياة البطلة أحد أهم أسباب مشكلتها، وبسبب حادثتها طرقت غادة أبواب الماضى من جديد، كما أن الأم صاحبة الأثر فى شخصية الزوج السابق للبطلة «shadow» كونها من وجهة نظره النموذج الأسوأ والتى بسببها تزوج من «غادة» ليثبت لها أنه تزوج مِن مَن هى أسوأ منها، كما أن الأم هى المسئولة عن تأسيس فكر شخصية حبيب غادة الأول الذى تركها لأنه لن يتزوج من شخصية استسلمت له حتى ولو بدافع الحب.
الفعل الإنسانى محفوف بالخطيئة، فعل هجين صعب استخلاصه من ما يشوبه، ففى نفس الوقت الذى تقدم البطلة المساعدة لإحدى الشخصيات العابرة تقوم بسرقتها، وفى موضع آخر ترضخ البطلة من أجل إنقاذ والدتها ولا تجد حلاً غير العودة إلى صورتها القديمة، ورغم أن طليقها يعترف بحبه لوالدته إلا أنه تركها تموت أمامه دون أن ينقذها.
الاعتذار وسيلة ظالمة فى التكفير عن الذنب فهو لا يرد الحق ولا يعيد ما كان، ويظل وسيلة خاملة غير مكتملة الأركان إذا لم يسامح صاحب الحق، فالحبيب الأول للبطلة اكتفى بالاعتذار وتسديد مصروفات علاج والدتها مقابل أن تسامح غادة أول من أسقطها وضلت الطريق من بعده.
يطرح الفيلم بشكل ضمنى الأحكام المطلقة، خاصة المعتمدة على المعايير الشكلية دون النظر إلى جوهر أو مضمون البشر، فإذا حكمنا بهذه المعايير على شخصية البطلة وشخصيات الرحلة كيف نراهم، هل هم صالحون أم مذنبون، وما هو مفهوم الصالح من البشر والمذنب منهم؟
تمثل رحلة الفيلم تورية بين معنى ظاهر وجلى يتمثل فى امرأة قررت التوبة لكنها تواجه عقبة تهدد استمرارها فى حياتها الجديدة، ومعنى بعيد مستتر يتمثل فى القرار والتأرجح بين التشكك والتيقن منه، بين إرادة الرغبة وإرادة التحقق والوصول إليها وكيف تتصارع الإرادات بين الاستسلام والتحرر أو حتى المحاولة.
فيلم رحلة 404 برهان على أن المخرج هانى خليفة قادر على تحقيق الاتصال بين عناصر الفيلم فى أطر مختلفة فنية وجمالية وفكرية خلقت رؤيته الخاصة، ورسخت أسلوبيته فى معالجة قضايا تؤرقه، كما أنه يجيد اختيار أبطاله والبحث داخلهم عن مناطق الاختلاف، بطلة الفيلم منى زكى أصبحت حالة فنية تحترف الخروج عن دوائر التوقع فى كل شخصية تقوم بتجسيدها، محمد فراج، خالد الصاوى، محمد ممدوح، شيرين رضا، جيهان الشماشرجى، أضافوا ثقلاً وأبعاداً أخرى للشخصيات المتخيلة المكتوبة على الورق، السيناريست محمد رجاء كاتب موهوب ومكسب من مكاسب رحلة 404.