عرفت بلادى الإذاعة المسموعة فى عشرينات القرن الماضى حينما ظهرت بها الإذاعات الأهلية، وكان أغلبها ملكاً لتجار استخدموها لترويج بضاعتهم. كان الابتذال عنواناً لغالبيتها حتى اختفائها مع ظهور إذاعة الدولة المصرية فى 31 مايو 1934 التى انطلق صوت مذيعيها مردداً: «هنا القاهرة»، مقدماً الأخبار والتحليل والرأى والأغنية والمسلسل والأوبريت والأذان والبرنامج. كانت الدولة حاضرة فى إذاعتها، وكان المصريون ملتفين حول إذاعة الدولة.
جاءت ثورة يوليو لتدرك دولة الثورة دور الإعلام فى توصيل صوتها ونشر فكرها لا لمصر وحدها، ولكن للعالم العربى والعالم، فكان تقوية محطات البث وتعدد المضمون عبر محطات إذاعية يخدم كل منها رؤية «دولة»، فتلك إذاعة القرآن الكريم لمكافحة التطرف وتقديم الدين السمح، وتلك إذاعة صوت العرب لنقل رسائل مصر للشعوب العربية، وتلك إذاعة الموجهات بكل لغات العالم لكل العالم، وتلك.... كل هذا بدولة حاضرة فى صناعة وعى مواطنيها.
ويستمر إدراك الدولة لضرورة مواكبة العالم فى تطور الرسالة الإعلامية، فكان افتتاح التليفزيون المصرى عام 1960 ليتوالى على شاشته الوحيدة، فى بادئ الأمر، مضمون يعلم ويثقف ويرفّه ويسلى ويربى ويخبر ويقدم الفكر الراقى. برامج تعرض القضايا والأخبار وفن الباليه ونادى السينما وتفسير القرآن ووحى الروح. لم يكن التليفزيون المصرى فقط مؤسسة لتقديم مضمون رائع، ولكن أيضاً لتقديم الكوادر التى عبّرت عن رقىّ الدولة وتحضرها ورسالتها فى مواجهة حملات التغريب والتعريب والتطرف. نعم، كانت بلادى متفردة فى المنطقة بتاريخها وحاضرها ونظرتها للمستقبل.
وجاءت سنوات ما بعد الانفتاح وظل إعلام بلادى واعياً لما يحيط بنا برؤية من قادوه وإن اختلفت معهم فى عالم السياسة، فكان لمصر الريادة فى الدراما والبرامج والقنوات رغم مآسى هذا العصر الذى ما زلنا نعانى منه، ورغم ظهور أعراض انسحاب الدولة من شرايين ومفاصل مؤسساتها بدءاً من مؤسسة الأسرة وحتى أعلى المستويات على المجتمع ككل، فإن الإعلام كان حاضراً مدركاً لما يطرأ على المجتمع من فساد المضمون والفكر، فكان سباقاً لنقاش وطرح ما تتعرض له الدولة من نخر فى مفاصلها.
ولكن لا يمكن، وفقاً لنظرية الأوانى المستطرقة، أن تختلف نوعية المياه فى قوارير متشابكة، ففقد الإعلام بريقه ومضمونه وسيطرت عليه لغة الفساد والسلطة ليشيخ أمام منافسة مدروسة من مخابرات عالمية، لتدرك الدولة ما آل إليه حال إعلامها فسارعت لإعلام رأس المال المربوط بها من طرف الحبل ظناً منها أنها ستملكه وتحكم حركته، دون إدراك منها أن نظامها قد شاخ ولم يعد يصلح معه تلك الوسائل، وأن الشعب بحاجة لوعى حقيقى لا وعى زائف يمارسه عليه كل ليلة أصحاب أبواق باتوا يقيسون حضورهم بحجم الإعلانات.
ألا أونا ألا دوى ألا ترى.. كان هذا صياح كل ليلة ليثبت كل طرف للإعلان أنه الأفضل والأقوى على الساحة فى ظل تراجع رؤية وغياب خدمة، ومن دون أن تدرك الدولة أنها من يباع ويُشترى كل ليلة فى المزاد.
وجاء عصر تجار الدين فاختلطت الموازين وسارع الجميع للدفاع عن بلاده عن قناعة أو مصلحة، لتأتى «30 يونيو» 2013، وقد ظن كل صاحب بوق أنه محرك الجموع الغفيرة وأن الفضل له دون غيره وقد حان وقت جنى الثمن. ولكنهم اصطدموا برأس دولة ليس لديه فواتير عليه دفعها فكانت الحرب المضللة والمغيبة والمسعورة تحت راية المعارضة زوراً.
واختفوا وغابوا وعادوا فى صورة المناضل المنتصر صاحب الرأى بموافقة الدولة التى ما زال يوجد بها من لم يتعلم الدرس بأنه لا يوجد إعلام يعارض وإعلام يؤيد كما لا يوجد إعلام محايد، بل هناك إعلام مهنى يقدم المعلومة وتوضيح الخبراء بحق لها لنبنى شعباً بحاجة إلى خلق ووعى.