المصاب الذى ألمّ بنا جلل.. مأساة حقيقية، أصعب من أى تصور، وتأثيرها يفوق كل احتمال، ولذلك، فإن الغضب مشروع، والحزن مفهوم، وكذلك الصدمة والذهول.
قتلة مجرمون، مجردون من كل مُدرَك إنسانى، وفاقدون لكل قيمة، ومنقطعون عن أى معنى ذى اعتبار، فتحوا نيران أسلحتهم الرشاشة على مصلين بين يدى الرحمن، لكى ينفذوا أجندتهم الإجرامية، ويحققوا أهدافهم المنحطة على جثث الضحايا الأبرياء.
هذا ما جرى يوم الجمعة الماضى، ونحن جميعاً، ومعنا كل الأسوياء فى الإقليم والعالم، انتفضنا غضباً، وأدنّا بأشد العبارات هذه الجريمة الإرهابية الشنعاء، وبين ركام الواقع الموجع، ظهر أننا غاضبون بأكثر من قدرتنا على التفكير المنطقى، ومذهولون بأكثر من احتياجنا للتصرف الرشيد.
يصعب جداً أن تطالب أمة مكلومة، أو جمهوراً مصدوماً، أو مؤسسات جريحة، أو نخبة مذهولة، بالتفكير الرشيد، فى أعقاب مأساة كتلك التى ضربتنا قبل ثلاثة أيام.
حتى الدول المتقدمة، التى تمرست فى أعمال الحرب، واعتادت على خوض الملاحم، لم تكن قادرة على ضبط أعصابها حين ضربها الإرهاب ضربات فاجرة ومؤثرة.
عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر فى الولايات المتحدة، مطلع العقد الماضى، لم تكن الأمة الأمريكية قادرة على استيعاب الصدمة، وبالتالى، فقد ظلت الدولة والمؤسسات والنخب والجمهور فى حال انتفاض ورغبة فى التعبير عن الغضب.
الشىء نفسه حدث فى فرنسا فى أعقاب الهجوم المسلح على مقر صحيفة «شارلى إيبدو»، وفى دول أوروبية أخرى عديدة ضربتها الأحداث الإرهابية الجبانة.
بعد ثلاثة أيام على الحادث الأليم يمكننا الآن أن نستخلص العبر، وأن نبحث عن طريقة نرتقى بها إلى مستوى الحدث، لكى نتعامل معه بالشكل الذى يحد من خسائره المؤلمة، ويوفر لنا طاقات ومسارات، يمكن من خلالها أن نعزز صلابتنا، فى معركة تبدو طويلة، مع عدو غادر، لا يضبط سلوكه ضابط، ولا يحد من خسته حد.
أولاً: لا للتعبئة
ظهر ميل واضح لدى قادة رأى وإعلاميين ومثقفين إلى الإسراع فى خطوات تعبئة دعائية ضد الإرهاب، وهو ميل اتضح فى عنوان سمعته على مدى الأيام الثلاثة الفائتة أكثر من عشر مرات، من زملاء صحفيين يعدون تقارير أو يجرون حوارات؛ العنوان يقول: «يجب أن يتحول إعلامنا إلى إعلام حرب».
لا يجب أن يتحول إعلامنا إلى إعلام حرب، لأن ذلك لا يخدم حربنا ضد الإرهاب، بقدر ما يحقق بعض أهداف الإرهابيين.
معنى أن يتحول إعلامنا إلى إعلام حرب أن يتم تجييش وسائل الإعلام لكى تعيد التذكير بارتهاننا لإرادة الإرهابيين، وأن يتم حرفها مهنياً عن أدوارها المفترضة، التى من دونها لا يمكن أن نعزز أداءنا العمومى، لكى نهزم إرادة الإرهابيين.
إعلام الحرب ليس هذا وقته، لأن الجمهور فى غالبيته الحاسمة والمؤثرة يقف مع الدولة، وينفر من الإرهابيين ودعاواهم، ويثبت عند مقاصد المجتمع، ويذود عنها بصلابة.
المؤسسات لا تحتاج إلى دعاية حربية، ولا ينقصها شحن أو توضيح، لأنها مطلعة ومدركة ومنطلقة من يقين لا يزعزعه شك.
الدعوة إلى صيغة تعبوية ستنهكنا، وتستنزف طاقتنا، فى وقت نحتاج فيه التركيز والعمل والعودة سريعاً إلى الإيقاع الطبيعى، من دون أن نتخلى عن أدوارنا المنطقية والبدهية فى محاربة الإرهاب ودحره.
ثانياً: سلاح القبائل
لا يجب أن نفرح بالأخبار عن ظهور سلاح قبائل سيناء، وعن قيامها بأدوار عسكرية وأمنية لمساندة الدولة فى مواجهة الإرهابيين، وعن تحويلها تعريف ما جرى من كونه اعتداءً على الدولة وانتهاكاً للقانون، إلى كونه ثأراً مرتكزاً إلى عصبية، بعد مقتل أبناء قبائل على أيدى عصابة مسلحة، بعض أعضائها ينتمى إلى قبائل أخرى.
لا ينبغى أن نفرح لأن مواطنين يريدون أن يأخذوا ثأرهم بأيديهم، وهم فى طريقهم لذلك يفتئتون على أدوار أصيلة للدولة، تُعد منازعتها فيها، أو مشاركتها فيها، نقضاً لجوهر دورها، وتقويضاً لمسئوليتها، واعتداءً على هيبتها، حتى لو كانت تلك الأدوار تصب شكلياً فى صالحها، وتنال مرحلياً من أعدائها.
الإرهابيون القتلة اعتدوا على مواطنين أبرياء، وتلك جريمة نكراء، وخرق للقانون، واعتداء آثم ليس فقط على الإنسانية، ولكن أيضاً على الدولة، ودورها، ومسئوليتها، وهيبتها.
تلك الجريمة استهدفت الدولة، والدولة يجب أن تستخدم الوسائل المناسبة لمعاقبة مرتكبيها، فى إطار القانون، ونحن وراءها، ندعمها، ونساندها.. لا أكثر، ولا أقل.
ثالثاً: الرد الغاشم
سترد الدولة على الإرهابيين، وستعرف كيف تنزل بهم العقاب الذى ينص عليه الدستور والقانون، وستبذل كل جهدها لكى تظهر للعالم الفارق بين العصابات المجرمة المأجورة وبين الدول التى يحكمها القانون، وتسيرها المؤسسات، وتضبط أداءها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التى صدقت عليها.
لن تسهو الدولة، ولن تنام عن حق أبنائها، ولن تفرط فى سمعتها وهيبتها، ولن تتخلى عن أدوارها الأصيلة فى حفظ الأمن، ورد الحقوق، وستذود عن حياضها، وفى طريقها لذلك، ستسخر كل أدواتها، وستستخدم كل الرخص التى تتفرد باستخدامها، وسيكون ردها حاسماً، وقاطعاً، وموجعاً، ورادعاً، ومسئولاً، ولن يكون غاشماً أو جائراً.
رابعاً: حماية المدنيين
سمعت مسئولاً بارزاً يتحدث على إحدى الفضائيات المعتبرة، مطالباً بالكف عن استخدام ذريعة «حماية المدنيين»، لاعتقاده أن ذلك يمكن أن يحد من قدرات قوات إنفاذ القانون على مواجهة التحدى الإرهابى، والإيقاع بالإرهابيين ومعاقبتهم.
يقول المسئول إن تلك النغمة «رديئة» و«بالية»، ويعرب عن الاستعداد للتضحية بهذا الاعتبار من أجل هدف أسمى.
كان هذا ما سمعناه فى أعقاب انتفاضة 30 يونيو، من بعض هؤلاء الذين أظهروا حرصاً على تصليب مسار 3 يوليو، وخوفاً من ألاعيب «الإخوان» وإرهابهم، وتدابير قطر وتركيا، وبعض دول الإقليم والعالم التى اصطفت ضد الدولة المصرية وسعت إلى تقويضها، عبر تعزيز العمليات الإرهابية فى سيناء.
قال البعض آنذاك: «وما المانع من إبادة عدد قليل من السكان، إذا كان فى ذلك حماية للدولة ومائة مليون من أبنائها؟».
ليس هكذا تتصرف الأمم المتحضرة، وليس هكذا تدار الأزمات، وليس هكذا نقدم أنفسنا للعالم، ونأمن على بعضنا مع بعضنا.
الدولة قادرة، ويجب أن تكون قادرة، على الرد على الإرهاب، ودحره، من دون أن تجور على الحقوق الأساسية لمواطنيها بقدر الإمكان.
وهى بانتصارها فى تلك المعركة، تكرس قدرتها وهيبتها، وبحمايتها لأبنائها، والتزامها القوانين، تعزز اليقين فى كونها دولة وطنية، يحكمها دستور وقانون، وتديرها مؤسسات.
خامساً: التكفير
لا تضغطوا على الأزهر، لا تحرجوه، ولا تبتزوه.
الحديث عن التكفير لن يحل الإشكال. لقد باء مرتكبو الحادث بالتوصيف الذى يخرجهم من الإنسانية، وهم فى الضمير الوطنى أحط من أى نقيصة، وأقل من أى اعتبار.
الظن بأن تكفير الإرهابيين بقرار يصدر عن الأزهر يمكن أن يساعدنا فى تلك المعركة ليس سوى وهم مبتذل، وهو أمر يفتح أبواباً لا يمكن إغلاقها كما قال أحد قيادات المشيخة.
لسنا بحاجة إلى تكفير أحد، لكننا بحاجة إلى ضبط الإرهابيين، ومعاقبتهم، وغل أيدى أقرانهم، وتجفيف منابع دعمهم، وإقصائهم بعيداً عن العبث بمقدراتنا، وهذا الأمر سيتم بالإرادة والعمل، وليس بالفتاوى والتصريحات ووسائل الدعاية.