قبل أيام قليلة، أدى ديرليش موس القسم كأول قائد شرطة من أصول أفريقية بمدينة فيرجسون الأمريكية. يشكل السود نسبة 67% من سكان المدينة التى كانت نقطة انطلاق موجات من الاحتجاجات عبر الولايات المتحدة، بعد مقتل الشاب الأسود، الأعزل، مايكل براون (18 سنة)، على يد ضابط شرطة أبيض فى أغسطس 2014.
عدد القتلى على يد الشرطة الأمريكية يبلغ نحو 1000 شخص كل عام، حسب تقرير نشرته مجلة «ذى نيشن»، فى نهاية العام 2015، تحت عنوان دال على حجم الأزمة: «أكبر خطر على الأمن العام الأمريكى هو دولة الشرطة الأمريكية».
ومع ارتفاع عدد ضحايا الشرطة الأمريكية (أغلبهم من السود)، تعد قصة براون، من أكثر القصص التى خلفت ردود فعل محلية، ودولية واسعة، وتسببت فى احتجاجات كبيرة استمرت لأسابيع. وهذا أمر نادراً ما يحدث فى أمريكا.
لماذا كان رد فعل المجتمع الأمريكى والصحافة مختلفاً؟
تكمن المشكلة بشكل رئيسى، فى أسلوب معالجة الأزمة من قبل السلطات المحلية، فقد أعلن المدعى العام للمقاطعة أن لجنة المحلفين، قد رفضت توجيه الاتهام للضابط القاتل، دارين ويلسون، مما فجر موجة جديدة من الاحتجاجات، استقال على أثرها ويلسون، ومسئولون فى شرطة المدينة.
بعد أشهر قليلة، أعلنت وزارة العدل الأمريكية، أن نظام العدالة فى فيرجسون بحاجة إلى تعديل، وأن المدينة قد انتهكت الدستور، والشرطة تمارس أنماطاً من التمييز العنصرى.
أكد قائد الشرطة الجديد، الذى ألقى القسم قبل نحو أسبوع، فى تصريحاته أنه عليه الكثير ليفعله. وقال مسئولون بالمدينة إن من بين ما يخطط موس لفعله، هو إعادة هيكلة شرطة فيرجسون.
انتهاكات الشرطة الأمريكية، والفساد المتغلغل بداخلها، ليسا فقط فى تلك المدينة الصغيرة، بل فى العديد من الولايات والمدن. وقد جسدت العديد من الأعمال السينمائية فساد الشرطة، ومن أشهر تلك الأعمال، فيلم «الخلاص من شاوشانك».
تقتل الشرطة الأمريكية 3 أشخاص يومياً فى المتوسط، وتغتال كل يومين شخصاً أعزل. الصحافة والمواطنون ركزوا على عنصرية وهمجية الشرطة الأمريكية، وإفراطها فى استخدام القوة ضد أفراد عزل. ولكنّ هناك مؤيدين أيضاً، يساندون الشرطة، ويحذرون من الفوضى، والانفلات الأمنى.
توضح تحليلات هادئة ورصينة سر تفهم الأمريكيين للمشكلة، وهذا لا يعنى تقبلهم للجرائم والانتهاكات. من بين أبرز تلك التحليلات، مقال نُشر فى مطلع العام الحالى فى مجلة «فورين بوليسى» المرموقة، ترى كاتبته، روز بروكس، أستاذة القانون بجامعة جورج تاون، أن الأمر أعمق من كونه همجية وعنصرية، وأرجعته إلى 3 عوامل:
1- عنف الشرطة الأمريكية، هو جزء لا يتجزأ من عنف مجتمع يملك أفراده سلاحاً ربما يزيد على عددهم (كل 100 شخص لديهم ما بين 88 -112 قطعة سلاح نارى)، ويسجل قرابة 14000 جريمة قتل كل عام، أغلبها بإطلاق النار، و1.5 مليون جريمة عنف مختلفة.
2- إن المجتمع الأمريكى، ما زال يعانى من مشكلة العنصرية. العنف والعنصرية يتقاطعان أحياناً.
3- 18000 إدارة شرطة، تتبع الولايات، والمدن، تعمل بشكل شبه مستقل، فى بيئات وثقافات مختلفة.
وبينما لا تقف انتهاكات الشرطة الأمريكية، عند القتل فحسب، وتمتد إلى الفساد، والرشوة، وتلفيق الاتهامات، يبقى السؤال مطروحاً: لماذا لا يثور الأمريكيون ضد شرطتهم؟ لماذا لا يهتفون «الشعب يريد إسقاط النظام»؟
الصورة الذهنية لمنظومة العدالة فى عقلية الأمريكيين جيدة. لا تنتهى المشاكل فى أى مجتمع بشرى، ولكن طالما شعر الفرد بأنه يستطيع الحصول على حقه، فإنه ليس بحاجة إلى الثورة والدماء.
حين حدث خلل فى فيرجسون، وظهرت صورة مغايرة، كان رد الفعل مختلفاً أيضاً، كاد الغضب يتحول إلى ثورة عارمة.
الصحافة تتحدث بحرية، وتبحث عن المعلومات، ولا تكتفى بتصريحات المسئولين. شبكات السوشيال ميديا تتفاعل، بكل ما لها من تأثيرات سلبية على عقلية الجماهير. لا يتدخل قادة الدولة لتكميم الأفواه، بصورة توحى أنهم منحازون للفساد.
هذه الأزمات ترسخ قناعة تاريخية لدى الأمريكيين بأن هناك فصلاً حقيقياً، واستقلالية، بين مؤسسات الدولة، وسلطاتها. مما يحمى الدولة بجميع مكوناتها (شعباً، ونظاماً، وأرضاً) من سلبيات الثورات، والانهيار.
لذا ليس من المحتمل أن يثور الأمريكيون ضد انتهاكات الشرطة، بل سوف يعملون على حلها، تدريجياً، طالما هناك أمل فى الحل.