ليس من حقى أن أعلق على حكم قضائى لأننى لست قانونياً متخصصاً، ولم أقرأ أوراق القضية التى تتجاوز مجلدات الأغانى للأصفهانى، وليس من حقى تقييم القاضى لأننى أعرف أنه رجل فاضل ضميره يقظ ونيته سليمة، ولكن من حقى أن أعلق على ما سمعته من خطبة عصماء فيها من البلاغة أكثر من الدقة، والقانون كما نعلم هو لغة المباشرة وليس لغة السجع والجناس والاستعارة المكنية.
امتلأت خطبة المستشار الفاضل أحمد رفعت بعبارات ضخمة وكلمات رنانة من قبيل «ينقشع» التى تكررت أكثر من مرة وأشعة حسناء وضاءة والالتحاف بالسماء وافتراش الأرض، وهذه العبارات الطنانة الرنانة من الممكن أن نقرأها فى كتاب «العبرات» للمنفلوطى لا فى حكم محكمة!!، مع ملاحظة أن المنفلوطى لم يكن ليخطئ كل تلك الأخطاء النحوية المرعبة التى ترفع المفعول وتنصب الفاعل، لكن السؤال هل تلك المقدمة ليست لها أى دلالة أخرى غير دلالة تمهيد الناس لحكم عنيف قد يصل إلى الإعدام، ثم صدمتهم بعد النطق بحكم البراءة لمساعدى وزير الداخلية؟.
هذه المقدمة البليغة لها دلالة فى منتهى الأهمية من وجهة نظرى، تتجاوز الجزء القانونى الذى أكد عليه المجلس الأعلى للقضاء بعدم استعراض القضاة بأحاديث إعلامية تربك سير القضايا، الدلالة التى تهمنى هو أننا كمجتمع مصرى ما زلنا نعيش مرحلة المجتمع الشفاهى، مجتمع سوق عكاظ والمعلقات، مرحلة البلاغة فيها أقوى من الوضوح، والثرثرة والرطرطة أهم من الاختصار والإيجاز، مرحلة التفكير بالتمنى وليس بالواقعية، ما زلنا نخاصم لغة العلم، المعادلة المختصرة التى تصيب الهدف من أقصر طريق مستقيم، الناس لم تفهم الحكم وغرقت هى ومحللو الفضائيات فى بحر الظلمات نتيجة الغوص فى محيط الزمخشرى!!، المفروض أن «واحد زائد واحد يساوى اتنين»!!، حكمنا على مبارك والعادلى عشان كذا بمنتهى التحديد وحكمنا على الآخرين بكذا أيضاً بمنتهى التحديد والإيجاز، ليس من المنطقى أن أمهد الشعور الجمعى بأننى أحاكم عهداً أو أدين ثلاثين سنة، فهذا ليس مكانه محكمة الجنايات، أنا أحكم فى قضية محددة لأشخاص محددين، لكن أن أظل فى دائرة «ينقشع والنور الوضاء والالتحاف بالسماء وتنفس الصعداء»!!، فهى دائرة موضوع تعبير للصف الثالث الإعدادى ينخدع فيه مدرس اللغة العربية ويمنح صاحبه درجة النجاح!.
أنا متأكد من نقاء ضمير هذا الرجل الفاضل وحنكته المهنية، ولكنى أتمنى على مجلس القضاء أن يشدد على إيجاز الأحكام وعدم السماح بمقدمات تحمل الرأى الخاص الذى مكانه برامج «التوك شو» خارج المحكمة، لا الرأى القانونى الذى مكانه داخل حصن المحكمة، فاللغة هى وعاء الفكر، والإطناب والترهل اللغوى لو تعودنا عليه سنصبح كسالى الفكر غير منتجين لأى إنجاز علمى تحتاج لغته إلى الدقة والوضوح والتجريد والاختصار.