يقول الشاعر الفيلسوف أبوالعلاء المعرى: «كل من ألقى يشكو الدهر.. ليت شعرى الدنيا لمن؟!». لا ينطبق على حالنا مقالة، مثل تلك المقالة. الناس كلها تشكو هذه الأيام، لم يعد لها من أحاديث، سوى أحاديث الفوترة، المرتبطة بأسعار فواتير الكهرباء والمياه والغاز التى تلتهب شهراً بعد شهر، أو أحاديث «اللحمنة»، التى تتناول أسعار اللحوم الحمراء واللحوم الداجنة والأسماك، أو أحاديث «التمونة»، بما يتعلق بها من كلام عن أسعار الزيت والسكر والأرز والعدس والفول وخلافه، أو أحاديث «النفسنة»، التى تتناول أداء بعض المسئولين ورجال الأعمال الذين يخرجون لسانهم للشعب، بممارسات مستفزة. ربما حملت أحاديث النفسنة إجابة عن السؤال الذى احتار فيه المعرى: «الدنيا لمن؟!».
تلك حال البلاد والعباد، بعد ثلاثة أشهر من تعويم الجنيه، صعد خلالها منحنى سعر الدولار وهبط بصورة نسبية، خلال الأيام الأخيرة، لكن منحنى الأسعار صاعد أبداً. ثمة قاعدة يؤمن بها جل المصريين، وهى أن سعر السلعة الذى يزيد يستحيل أن يتعرض للهبوط بعد ذلك، فمهما هبط سعر التكلفة يظل سعر البيع ثابت، أو يكون مرشحاً للزيادة، وفروق التكلفة عادة ما تدخل فى جيب التاجر. لم يعد فى جعبة المسئولين والإعلام والمواطنين سوى الحديث عن أمرين، أولهما، التكافل، وثانيهما التبرعات. هذان الأمران محوران من محاور النشاط الاقتصادى فى مصر حالياً!. مبادرات عديدة ظهرت فى سياق تفعيل مبدأ التكافل المجتمعى، سعياً إلى تخفيف الأعباء عن المواطنين، ظهرت مثلاً مبادرة عنوانها: «الشعب يأمر»، تفاعلت لعدة أيام ثم خبت، سيارات تظهر حيناً وتختفى فى أحيان لتوزيع سلع بأسعار مخفضة على المواطنين فى الأحياء الفقيرة، تكاد كل برامجنا التليفزيونية تتحول إلى نوافذ لشكوى الشاكين، وتبرع المتبرعين، فى مشهد أظن أننا لم نعشه من قبل.
أما التبرعات، فحدث ولا حرج، أشياء ومشروعات عديدة فى هذا البلد أصبحت موضوعاً للتبرع: تبرع لمستشفى سرطان الأطفال، تبرع لجمعية مش عارف إيه، تبرع لصندوق تحيا مصر، وأخيراً تبرع لبناء مسجد وكنيسة فى العاصمة الإدارية الجديدة. حتى المساجد والكنائس أصبحت موضوعاً للتبرع، بتشجيع من الدولة، وكأن الأزهر الذى تبرع بربع مليار جنيه لصندوق تحيا مصر ليس بمقدوره بناء مسجد أو فرع له فى العاصمة الجديدة، وكأنه ليس فى وسع الكنيسة أن تبنى فرعاً للكاتدرائية بها. وأخشى أن أقول إن الكثير من المؤسسات استراحت إلى هذه الطريقة، يحركها فى ذلك قناعة تحكم المسئولين عنها بأن هذا الشعب غنى!. واقع الحال أن كل هذه الجهود، رغم تقديرى لها، لن تحل المشكلة التى يعانى منها المواطن، ثعبان المعاناة أصبح يتلوى فى الطرقات، ويزحف من مواطن إلى مواطن، ومن فئة إلى فئة، ومن طبقة إلى طبقة. الثعبان أكل الفقراء، وصعد إلى الطبقة المتوسطة، والتهم شريحتها الدنيا، وهو يزحف بشكل هادئ وهادف إلى الشرائح التى تعلوها. بعد ثلاثة أشهر من التعويم، احتلت أحاديث «الفوترة» و«اللحمنة» و«التمونة» لسان المواطنين، وهو خطر لو تعلمون عظيم، خصوصاً إذا كانت وسيلة المسئولين فى التعامل معها يدور فى فلك «التكافل» أو «التبرع»!.