لفت نظرى مقطع فى أغنية «بتبعدينى عن حياتك بالملل» لابن النيل وابن الصعيد الجميل «محمد منير»، يقول فيه «صبرت صبر غريب عجيب مش محتمل..»!، وعلى ما يبدو أن مجتمعنا كذلك يفعل ذلك، فببال طويل لم يستشعر -رغم طوله- أى نقصان فى الصبر، ولا حتى فى الرغبة للتوقف، ولو لبعض الوقت من أجل إعادة النظر فى ما يتردّد من أحاديث بخصوص ضرورة «تحديث الخطاب الدينى»، والغريب والعجيب أنك قد تشعر وكأن الأمر صار منهج حياة، بحيث تجد أن الكثير بكل أسف ما زالوا مستمرين، بل ومصرين، فى المضى قدماً على النهج المجدب نفسه، الذى لم ولن نجنى من ورائه سوى ثمار الحسرة والشوك، واستكمالاً لمشوارهم الظلامى فقد أطلوا علينا مؤخراً بصيحاتهم المثيرة للدهشة، وهو ما أطلقوا عليه «كشك الفتوى».
وعندما نحاول أن نفكر بالعقل (اللى ربنا خلقه) لنجد حلاً لهذا المأزق التفكيرى الذى وصلنا إليه، والذى يقودنا إلى الهاوية لا محالة، ولا يضيف إلى حياتنا بشكل عام إلا المزيد من التردى والتراجع والانهيار، فلا بد أن نرجع إلى جذور تلك (المشكلة) الأساسية، وهنا يجب أن نعود إلى الأساس أو الحقيقة التى يقوم عليها أى شىء فى الحياة، وهى «الإرادة»، فإذا ما اقتربنا وأمعنّا النظر فى معنى أو فكرة «الإرادة الإنسانية ودورها فى حركة التاريخ الإنسانى»، سنجد أن هناك مستويين أو إدراكين أساسيين لطبيعة تلك الإرادة، وهما: الإدراك الأسطورى للأشياء، والإدراك العلمى، وللأسف الشديد فإن السائد فى العقل العربى والمكون الفكرى والمعرفى له هو التفكير الأسطورى -الذى يميل فى جزء كبير، خصوصاً فى الأمور الدينية منه إلى تقديس بعض الأشخاص أو الروايات أو الآراء- بل أحياناً يجور هذا النوع من الإدراك الأسطورى على التفكير العلمى النقدى، ويتحول معه الأمر فى النهاية إلى تصرفات غير عاقلة بالمرة، والأمثلة على ذلك متعدّدة: فمثلاً هناك أستاذ جامعى وبروفيسور سودانى قدم بحثاً حول إمكانية توليد الطاقة من الشياطين، وآخر مصرى يقوم بتحضير الأرواح، وثالث أيضاً وهو عالم باكستانى كبير زعم إمكانية استخدام نظرية النسبية فى قياس سرعة الروح إلى الجنة!!!!!.. والكثير من عينة ذلك.
وبمناسبة هذا الحديث الثقيل على أى نفس سوية بعقلها النقدى الذى وهبها الله إياه لتستخدمه فى التفكير العلمى النقدى، حيث كرر المولى عز وجل فى كتابه العظيم «القرآن الكريم» كلمة يتفكرون أكثر من 18 مرة أن لم أكن مخطئة، والآن وبعد مضى ما يقرب من نصف القرن على رحيل شيخنا وعالمنا التنويرى الجليل «على عبدالرازق»، أتذكره معكم -ولعل الذكرى تنفع المؤمنين- وأتذكر جملاً وسطوراً من كتابه الأثير «الإسلام وأصول الحكم»، الذى شمل على نص صريح كاشف وصادم فى وقت مبكر ضد سياق فكرى كان هو السائد حينها، حيث المناخ الدينى المحافظ فى الأزهر، الذى عمل على تعطيل المشروع لأستاذ الشيخ «على عبدالرازق» المفكر القدير «محمد عبده»، صاحب الفكر الإصلاحى، كما كان الملك «أحمد فؤاد» فى تلك الأثناء أيضاً يتطلع إلى وراثة الخلافة بعد سقوطها فى إسطنبول، وجاء شيخنا حينها يقول:
إن الخلافة بدعة لا تُنسب إلى جوهر الدين الإسلامى فى قليل أو كثير، كما أدان الحكم الملكى وفضح حقيقته الاستبدادية، وحذر من مغبته على حياة الناس المعيشية والفكرية على السواء.. والكتاب فى مجمله بمثابة الدعوة الواعية إلى الأخذ بالحياة المدنية المتحضّرة، التى تقوم على استحضار روح الفكر والخبرة الإنسانية العلمية.
ولحديثنا بقية..