السقوط فى جحيم الاضطراب يجعل المجتمع ينتشى طرباً على إيقاعات الكراهية، وتموج بحاره بنوبات هوس منافية للعقل، ويحمل عداء للرقى وللإنسانية، ويعلن عن ضمور للقيم وتراجعها إلى خلفية بعيدة فى الصورة تظهر فى لحظات نادرة. والواقع المضطرب يخرج منه العقل خاسراً، وتتوحش الأمراض وندمن الكراهية والفشل، وتتحول السخرية من عاكس لمرار أو طرح لأمل مجهض إلى موضة وسخف وهزل، ولا تفعل سوى إشاعة مناخ فقدان الثقة والتشكيك فى كل شىء، لتصبح السخرية نوعاً من الكراهية التى رسخها عصر الميديا الحديثة فى أكبر كوارث نشر ثقافة الاستهانة والهزل، وعلى كثرتها ومع تكرارها تحولت إلى إدمان وثقافة عند المجتمع كله، وتحولنا إلى مجتمع غرائزى جهول يعيش فيما تصوره له أوهامه، ويرى الصورة كما يريد أن يراها ويحكم عليها من موقعه ونتيجة نوازعه وعقده وإحباطاته، وبالتالى فهو يعيش فى مستنقع الوهم لا يلامس حقيقة أبداً.
الاضطراب المجتمعى الذى نعيش أعلى تجلياته يجعل النقد كما الكراهية فى الصدارة، فالمجتمع عبارة عن مجموعة كبيرة من النقاد وقليل من اللاعبين، وكثير من النقاد تعنى فعلاً أقل وإنتاج نقد وفشل وهزل وتصدير تشكيك وكراهية، فالمجتمع الذى يبحث ليل نهار عن توافه الأشياء ويستهلك فيها أعصابه ويهدر أيامه وطاقاته فى جميع تنويعات التوافه، هو مجتمع لا يفعل أى شىء وينتظر كل شىء ولا يرى لنفسه دوراً فيما ينتظره، بل هذا الدور يفعله آخرون بالنيابة. الأيام الماضية تصدرت أربعة مشاهد تلخص إلى أى درجة وصل بنا الاضطراب وإدمان الكراهية والأذى للآخرين، وكأننا لا نريد الحياة، ولكن غرائزنا حية تشكك فى النجاح وفقد الوعى، وكأن اختيارنا هو السقوط والارتباك.
المشهد الأول كان السخرية والتشكيك فى إنجاز فريد من نوعه قامت به فتاة مصرية وحصلت على الميدالية البرونزية فى بطولة عالمية، فكان رد الفعل على هذا الإنجاز، الذى كان يجب الاحتفاء به وإعطاء رسائل وقيم وثقة للأجيال الجديدة من خلاله، أن يتم وصم فريدة عثمان نموذج النجاح والدقة والإتقان والإبداع، فيتم التشكيك فى وطنيتها لمجرد أنها تدرس فى أمريكا وحاصلة على جنسيتها، رغم أنها تلعب باسم مصر وترفع علم مصر، ثم لا نكتفى بهذا القدر من إدمان الكراهية والتشكيك بل تتجلى حالات السخرية وتصبح مادة للهزل ويرون فيها القبح وهى التى تشع نجاحاً وجمالاً وإبهاراً يسخرون من ملامحها ومن أنوثتها وعندما ترتدى فستاناً أحمر جميل يجهزون عليها بالسخرية وهذه الحالة المضطربة والغريبة فى المجتمع الآن تؤكد سيادة نظرية «فليفشل الجميع ما دمت فاشلاً» و«كلما كنت مدهشاً بإنجازك فأنا أكرهك».
هذه الظاهرة المرضية تعكس إلى أى درجة من الاضطراب والخلل أصبحنا وهو مؤشر فى غاية الخطورة.. فهل ننتبه؟ ومتى؟
نحن نجهض الطموح ونكره النجاح ونطعن فيه بالتشويه والتشويش.
المشهد الثانى الذى حدث فى الأيام الأخيرة ويؤكد حالة التوحش فى إدانة الآخرين دون رحمة ودون دقة كانت الصورة السيلفى للمسعفين بعد حادث قطارى الإسكندرية، فسنت السوشيال ميديا سنونها على كل شىء كما لو كنا ننتظر يومياً كبش فداء لنجهز عليه ذماً ونذبح معه أشياء أخرى، فلم يسأل أحد نفسه ولم يسعَ للتأكد حتى على سبيل الاطمئنان أو راحة الضمير هل ترك هؤلاء المسعفون عملهم ومهمتهم الإنسانية ووقفوا لالتقاط الصورة؟ أم أنها التقطت بعد انتهاء مهتمهم الصعبة وإخلاء المكان؟
لا أحد لديه استعداد لتحرى الدقة، ولو كان يملك المعلومة فسيتجاهلها لأن المجتمع فى حالة من التربص ويفترض الأسوأ طوال الوقت، وهى مشاعر مدمرة وقاتلة.
الصورة الثالثة تعكس اضطراباً قيمياً ومعرفياً، وتؤكد أن هذه العقليات مشوشة وبها صراع وارتباك ضخم، ومن يقومون بتصويرهم والنشر هم الأسوأ وليس الأرقى والأعلى. إنها الصور الأكثر تداولاً على وسائل التواصل الاجتماعى، وهى صور نساء وفتيات بغطاء الرأس والبكينى أو نساء يرتدين البكينى فوق ملابسهن، أو صور لرجال يصلون داخل البحر، إنها مجموعة من الصور تعكس حالة اللخبطة وهى أحد نماذج الاضطراب الاجتماعى، إنه اضطراب فى الهوية الاجتماعية وتأكيد على عدم إدراك الصواب من الخطأ، وفى نفس الوقت من التقط هذه الصور متربص ويعتبرها مادة فخمة للسخرية وهؤلاء يعانون أيضاً أعلى حالات الاضطراب.
الصورة الرابعة التى تعكس أن الارتقاء الإنسانى سقط وأن المشاعر التى يجب أن تكون مفعمة بالإيجابية والرومانسية أصبحت ممتلئة بالحسد والغيرة والفضول السلبى والسخرية التى تعلن الكراهية، وكأننا نغلق كل نوافذ الطيبة والإنسانية والجمال ونفتح شهية الشهوة والحقد والأنانية والقبح، ومع ظهور أغنية عمرو دياب الخاصة ببرج الحوت تم الإجهاز على دينا الشربينى.. المفارقة أن أغنية حب تصبح سبباً فى حملة كراهية تتجاوز السخرية والحسد أى السب والقذف والتجريح.
ما أصعب أن يمتلئ مجتمع بحالات الاضطراب، وما أسوأ أن يمتلئ ببشر تنصب نفسها قضاة على الآخرين وعلى المجتمع، وما أفدح نتائج الفشل والشخصيات التى تشعر بالفشل فى العمل أو فى الحياة أو فى الحب أو فى التعليم، فتتصدر حالة الفشل بمبدأ «إذا كان الفشل نصيبى فليكن من نصيب الجميع».