أثناء إصدار الكونجرس الأمريكى فى عام 1995 قانوناً يقضى بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس قدمت إدارة بيل كلينتون حينها عدة تقارير ومذكرات استخباراتية وسياسية للأعضاء، قبيل إقرار القانون والتصويت على نفاذه، استطاعت بمقتضاها أن تُضمّن القانون بنداً يخوِّل لرئيس الولايات المتحدة الإعفاء من تطبيقه لدواع خاصة بالأمن القومى الأمريكى. وببعض الضغوط الإسرائيلية، حينها فرض الكونجرس على الرؤساء الأمريكيين الالتزام بالتعاطى مع هذا البند كل «ستة أشهر»، كى يظل من وجهة النظر الإسرائيلية هذا القانون حاضراً على طاولة القرار الأمريكى مرتين فى العام الواحد.
وجهة النظر الأمريكية فى التزام الرؤساء المتعاقبين وصولاً لترامب بهذا التحفظ تهدف من ناحية إلى الحفاظ على توازن مكونات سلطة إصدار «القرار الأمريكى»، ومن ناحية أخرى كى تحفظ للإدارة ورقة ثمينة فى عملية التفاوض، وفرض أوضاع التسوية على كلا الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى. وعن تلك الأخيرة كتب «توماس فريدمان» افتتاحية «النيويورك تايمز» منذ أيام، بعنوان «ترامب وفن منح الهبات دون مقابل». وفيه كال «فريدمان» انتقادات لاذعة لترامب بخصوص قراره بشأن القدس، وآخر تم بنفس النمط عندما ألغى «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادى للتجارة الحرة» دون أن يطلب من الصين أى تنازل تجارى فى المقابل. ونقل فريدمان تعليقاً يلخص الموقف فيما بعد القرار، يذكر: «رمى ترامب ببساطة الأداة الوحيدة الأكثر قيمة التى امتلكتها أمريكا لتشكيل المستقبل الجيو- اقتصادى للمنطقة للضغط على الصين كى تفتح أسواقها أمام المزيد من البضائع الأمريكية».
وقد تساءل فريدمان وغيره من الداخل الأمريكى: لماذا لم يعلن ترامب مثلاً اعترافه بالقدس الغربية عاصمة لدولة إسرائيل وفى نفس الإعلان يضمن اعترافاً بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، خاصة أن كافة حلفائه الأوروبيين والعرب يلحون منذ عامين على ضرورة الوصول بالقضية إلى حل الدولتين. وإجابة هذا التساؤل ربما تقترب قليلاً من تفاصيل ما سماه الرئيس الأمريكى قبلاً بـ«صفقة القرن» التى تعاطى معها ترامب بـ«التعالى» و«العنجهية» التى نظر بها لفشل الرؤساء السابقين فى الوصول لإقرار اتفاقية سلام، ليس لتعقيد ملابسات الوضع الفلسطينى المنتج من «أوسلو»، ولا لنكوص إسرائيل عن الوفاء بالتزاماتها الشاحبة، بل ودفنها تحت جرافات الاستيطان. ولكن باعتباره عجزاً عن إبرام صفقة هو أهلٌ لإتمامها، كعشرات الصفقات التى أنجزها فى عالم الأعمال قبلاً. لم تكن المشكلة الوحيدة أمامه سوى أنه يريد الخروج بكل المكاسب لصالح طرف على حساب الآخر، ولهذا فور وصوله للحكم أطلق العنان لـ«غول» الاستيطان، كى يبتلع ما يمكن أن يشكّل عقبة قبيل الجلوس لبدء الحديث بين الأطراف. هذا باعتبار أن مفهوم «الصفقة» ترجم له جزءاً كبيراً من المعضلة باعتبارها نزاعاً على «أراض» يستلزم فيها ترتيب وضع مثالى للطرف الذى يريد ترامب انتزاع المكسب لحسابه.
هناك معادلة مختصرة اعتمدت عليها الإدارات الأمريكية السابقة، خاصة أن صاحبها هو «دينيس روس»، مفاوض السلام الأمريكى المخضرم فى الشرق الأوسط. نصاً هى: «عندما تتوقف عن البناء خارج تجمعات المستوطنات فأنت تحافظ إلى أقصى حد على إمكانية حل الدولتين، وللهبوط إلى أدنى حد فى إمكانية فصل الإسرائيليين عن الفلسطينيين، استمر فى البناء فى المناطق الفلسطينية ذات الكثافة السكانية المرتفعة، حينها سيصبح الفصل مستحيلاً». ولهذا، مع كل ما قام به باراك أوباما مثلاً لصالح إسرائيل، ذهب إلى إبقاء حل الدولتين ممكناً فى المستقبل بنزع الشرعية وتقييد الاستيطان. وهذا تماماً ما وجده ترامب عائقاً للوصول بإسرائيل إلى الوضع التفاوضى المثالى، لهذا كلف «جاريد كوشنر» بالذهاب إلى إسرائيل، وحمّله بمهمة واحدة كى ينجزها مع إدارة نتنياهو، وهى كيف ندمر حل الدولتين قبل الجلوس للحديث بشأنهما.
وكان مما تم تداوله هناك ما بين كوشنر ونتنياهو أفكار خيالية من نوع إعادة الأوضاع إلى حدود الرابع من يونيو 67، التى يطالب بها الفلسطينيون والعرب، ولكن وفق متغيرات اليوم. ويكون ذلك عبر إلحاق ما تبقى من الضفة الغربية بالإدارة الأردنية، وقطاع غزة بالإدارة المصرية، وتبقى «القدس الشرقية» المطوقة بالمستوطنات ليبحث لها عن تخريجة دينية وليست سياسية. وعن وضع السلطة الفلسطينية كانت هناك أفكار تحاول أن تصل بها لنقطة منتصف، إما أن تمارس إدارة مشتركة على البلدات الفلسطينية مع كلا الدولتين، أو يُصك لها مصطلح جديد «الإقليم الفلسطينى»، على هيئة إقليم كردستان العراق منزوع السيادة (المنافذ، المعابر، العملة... إلخ).
كل ما دار بشأن استطلاع آراء الرؤساء والملوك العرب فيما يخص الوضع النهائى المراد الوصول إليه أمريكياً، كان مع مصر والسعودية والأردن والقليل منه مع السلطة الفلسطينية. وجميعها، وحتى الاتصال التليفونى الأخير قبيل ساعات من إصدار ترامب لقراره، لم تخرج عن إطار ما طرحه العرب فى المبادرة العربية بشأن سيادة كاملة على أراضٍ متصلة، والعاصمة المعترف بها دولياً هى القدس الشرقية. وجميعها أيضاً وضع إطاراً لمفاوضات الوضع النهائى تتعلق ببحث أوضاع الكتل الاستيطانية الكبيرة بالضفة وكيفية الخروج بحلول لها، قد تكون فى النقب لضمان اتساع قطاع غزة وإيصاله بالضفة، أو بتعويض داخلى فى أراضى الضفة، لكن فى كل الأحوال هناك إمكانية لتقديم تنازلات لا تمس جوهر الطرح العربى الفلسطينى، فى حال إتمام الحصول على الدولة الفلسطينية بالصورة التى تم تقديمها للإدارات الأمريكية السابقة.
«ترامب» يريد أن يذهب للتسوية وقد فرّغ المطالب الفلسطينية من مضمونها، وربما يلجأ لعناوين جديدة يلزمها محفزات تساعد على التفاعل. هكذا أطلق اعترافه الأخير وهو يخفى بعض أوراق الحل عن الجميع، ليس ضمنها سيناء كما يحاول البعض أن يشيع، ولم يُفصح لأحد من الأطراف العربية عنها. هو يكفيه فقط الجلوس معهم ومع الفلسطينيين فى توقيت هو الأكثر إنهاكاً وتفككاً من أى وقت مضى، لضمانة تلهفهم على توقيع أى من الأوراق المقدمة إليهم.