من المتواتر أن أمريكا تريد تفتيت دول كثيرة، فهل يمكن أن تتفتت أمريكا لدول كثيرة؟ هذا الهاجس شغل، وما زال يشغل، عقول الكثيرين، خصوصاً أن النزعات الانفصالية بدأت تستشرى فى الكرة الأرضية، بعكس ما هو متوقع.
فى آخر زياراتى للولايات المتحدة الأمريكية، فبراير الماضى، سألت أحد القضاة الفيدراليين بولاية كاليفورنيا عن مدى إمكانية تفكك أمريكا؟ فقال لى: «هى مفككة بالفعل»!
عالم الاجتماع النرويجى «يوهان جالتونج» المختص بعلوم السلام، تنبأ، منذ عام، بانحسار دور الولايات المتحدة كقوة عالمية خلال فترة تولى «دونالد ترامب» الرئاسة.. و«يوهان» هذا هو من توقع انهيار ما وصفه بـ«الإمبراطورية الأمريكية» قبل عام 2025، قبل أن يعود ويعدل من توقعه ليكون قبل عام 2020، وذلك إبان فترة حكم بوش الابن.. وهو يرى الآن أن تولى ترامب للرئاسة سيسرع من عملية «الانهيار الأمريكى».
دول كثيرة قد تفككت فى المائة عام الأخيرة، مثل الإمبراطورية النمساوية المجرية، التى تفككت بنهاية الحرب العالمية الأولى، وكانت رقعتها قد امتدت لتشمل جزءاً من، أو كامل أراضى، ثلاث عشرة دولة أوروبية حالية. وكذلك يوغسلافيا التى انشطرت أوائل التسعينات إلى خمس دول، منها صربيا والجبل الأسود التى تفككت لاحقاً بدورها. وفى التوقيت ذاته كانت تشيكوسلوفاكيا تنقسم إلى نصفين، التشيك وسولوفاكيا. ويبقى الحدث التفككى الأعظم هو ما يتعلق بالاتحاد السوفيتى الذى تحول إلى ست عشرة دولة مستقلة. فهل يمكن أن تعانى الولايات المتحدة الأمريكية المصير نفسه، وهل يمكن لجيلنا أن يشاهد جمهورية أمريكا الشرقية، أو دولة تكساس الكبرى أو ما شابه؟
«جورباتشوف» أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى، تكهن منذ عدة أعوام بتفكك أمريكا ومواجهة نفس مصير بلاده.. أما الفيلسوف الفرنسى «إيمانويل تود» فكان من أوائل من تنبأوا بانهيار الاتحاد السوفيتى، ثم تنبأ بالمصير ذاته لأمريكا عبر كتابه «ما بعد الإمبرطورية: انهيار النظام الأمريكى»، يقول فيه إن ثمة كساداً عظيماً سيحدث مبتلعاً معه الدولة. وهو ما يتقاطع مع رؤية «جيم ريكاردز»، مستشار التهديد المالى فى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، الذى كان دقيقاً، وحدد منتصف مارس 2015، موعداً للانهيار الاقتصادى الذى سيطيح بأمريكا.. كذب المنجمون ولو صدقوا، وكذلك خبراء التهديد.
أما الروسى «إيجور بانارى»، فقد وضع نظرية رومانسية مرسلة تفيد بأن الأزمات الاقتصادية والأخلاقية ستقود الولايات المتحدة إلى ما يشبه الحرب الأهلية بحلول عام 2010، وهو ما لم يحدث بالطبع.. ويبدو أن كل ذلك هو من قبيل «التفكير بالتمنى»، وهو الاعتقاد بأن ما تريده أن يحدث سوف يحدث بالفعل، بغض النظر عن أى اعتبارات.
المؤلفة الأمريكية «جويل غارو» أصدرت كتاباً بعنوان «الأمم التسع لأمريكا الشمالية»، الذى يطرح فكرة تفكك أمريكا إلى تسع دول، لكن المؤلفة اعتذرت عن هذا الطرح بعد ذلك، وقالت إنها كانت تهدف فقط إلى الربح وإحداث فرقعة إعلامية. وقد انعكست هذه المخاوف كلها على هوليوود، وتجسد ذلك فى أفلام منها فيلم «الغرب المتوحش» للممثل الشهير «ويل سميث»، الذى كان يحارب فيه لمنع تفكك الاتحاد الأمريكى.
ويشير استطلاع للرأى، أجرته منذ بضع سنوات وكالة رويترز مع مؤسسة أبسوس، إلى أن قرابة ربع سكان الولايات المتحدة الأمريكية يؤيدون فكرة الانفصال بولاياتهم عن الاتحاد الأمريكى. وبين الاستطلاع أن الجمهوريين وسكان الولايات الزراعية الغربية أكثر تقبلاً للفكرة.
التفكك أصبح هو «الحلم الأمريكى» فى نفوس كارهيها، وفيما أظن، لن تتفكك أمريكا، قريباً على الأقل، إلا فى عقول هؤلاء الكسالى، ممن يريدون حلولاً سهلة لا تشمل أن يقوموا هم بما عليهم من عمل ونهضة، وذلك ببساطة لأن أمريكا مفككة بالأساس إلى خمسين دولة تجمعها مصلحة مشتركة تحت علم واحد.