السرية التى تُغلَّف بها بعض المجالس والجمعيات والروابط فى مصر المحروسة تثير الاشمئزاز لأنها تمنع على أعضائها أن يتكلموا عنها، وكثيراً ما كنا نسمع أن أحد أعضاء هذه الجمعيات السرية قد وقع فى قبضة رجال الأمن واعترف بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان على باقى الأعضاء.
ونذكر فى هذا الخصوص جمعيات ذوى الياقات الزرقاء فى مقابل جمعيات أخرى تُعرف باسم ذوى الياقات البيضاء، وقد يتهمهم البعض بأنهم حرقوا القاهرة وارتبطوا بالاحتلال الإنجليزى، بينما يرى آخرون أنهم تشكّلوا فى سرية تامة لمكافحة الاحتلال، ولأن الغموض كان يكتنفها فقد غابت أشياء كثيرة عن الناس.
فقد كنا نجهل بعض هذه الجمعيات السرية ولا نعرف الكثير عن أعضائها أو أهدافها، بل إن جمعية «حدتو» الشيوعية الشهيرة لم نكن نعرف شيئاً كثيراً عن مقاصدها، وكان يتبارى أعضاؤها فى كتمان أسرارها، ويتعمدون إخفاء مقراتها والأعضاء العاملين بها، وقد يكون الشخص عضواً فيها وينخرط فى أعمالها التخريبية لكنه لا يصارح شقيقه بعضويته أو التزامه بما اتفقت عليه قيادة الجمعية.
يبدو أننى اضطررتُ أن أتحدث عن جوانب من العمل السرى لهذه الجمعيات التى كانت تنادى فى بعض الأحيان بعودة الدستور أو طرد الاحتلال الإنجليزى! عندما يحدثنى البعض همساً عن جمعيات مشابهة فى سريتها تملأ أرجاء المحروسة مثل جمعية يطلق عليها البعض «الجمعية الفلسفية» وأخرى تُعرف باسم لجان مثل لجنة القصة أو لجنة العلوم السياسية أو لجنة الفلسفة.
وعلى الرغم من أن قواعد العمل بها تُلزم أعضاءها بألا تزيد مدتهم عن فترتين فإننا نجد أن رئيس إحدى هذه اللجان يجلس فى مقعده منذ عام 1993 ضارباً عُرض الحائط ببنود وقواعد العمل فى هذه اللجان!!
الكارثة أن هذه اللجان لا عمل لها، ويتم تجديد العضوية لأفرادها مَثنى وثُلاث وُرباع، ولا حياة لمن تنادى، فلجنة مثل لجنة الفلسفة تقتصر على أعضائها، مع أن جامعات مصر فيها أساتذة فلسفة كثيرون، فلا أحد يتصل بهم أو يدعوهم للدخول فى عضوية هذه اللجان، وكأن هذه اللجان سرية ولا تقبل فى عضويتها إلا من تعرفهم منذ سنوات.
والغريب أن شخصاً آخر متخصصاً فى العلوم السياسية ويعمل فى إحدى الجرائد القومية الشهيرة وحاصلاً على دكتوراه الدولة فى العلوم السياسية من إحدى الجامعات الغربية المرموقة لا مكان له فى لجنة العلوم السياسية «السرية» التى تقصر مقاعدها على الأعضاء القدامى الذين أمضوا فترتين أو ثلاث فترات فى أماكنهم، ولكى نسمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية نقول إن هناك مجلساً يضم هذه اللجان «السرية» ولا عمل له ولا يكاد يسمع عنه أحد هو المجلس الأعلى للثقافة بلجانه السرية التى لا تُقدم ولا تؤخر طوال السنوات الماضية.
كنا بالأمس نعرف الكثير عن جمعيات العقاد أو صالونه، وكتب أنيس منصور كتاباً ضخماً عن النقاشات التى كانت تدور فيه، أى إنه لم يكن سرياً كحال بعض الجمعيات الحالية مثل الجمعية الفلسفية التى تُقصر نفسها على أستاذ الفلسفة الإسلامية الشهير حسن حنفى ويتولى أمرها نفر من أساتذة الجامعة السابقين، وقصروها على أفراد من تخصصات مختلفة ويرفضون أن يُدخلوا ضمن عضويتها دارسى الفلسفة، إن الشرط الوحيد الذى يصرون عليه هو أن يعرفوه، أما إذا شعروا بأنه هبط عليهم من علٍ فلا يقبلونه حتى وإن كان يحمل أعلى الدرجات الفلسفية!
الغريب أن هذه المجالس وتلك اللجان أو الجمعيات تُمعن فى سريتها وتتخلى عن رسالتها التنويرية، وحسبها أن تجدها إذا ما سألت عنها، لكن عملها وأهدافها لا وجود لها سوى على الورق فقط لا غير.
وأكاد أقول إن وزارات كاملة تعتمد على هذه اللجان السرية، وحسبها أنها لا تسبب إزعاجاً للجان الوزارة التى تصمت ما دامت لا تثير قلاقل أو نقاشات.
بصراحة تامة، لا نعرف عن لجان المجلس الأعلى للثقافة إلا ما كان يتردد فى زمن عباس العقاد الذى كان يرأس لجنة الشعر وعندما جاءته قصيدة نثرية -وكان الشعر الحديث غير معروف فى هذا الزمان- كتب عليها «يتم تحويلها إلى لجنة النثر»!
أقول: منذ هذا الحين تحولت لجان المجلس إلى لجان سرية لا يعرف أعضاؤها عنها شيئاً.
والحق يُقال: لقد تحولت وزارة الثقافة إلى وزارة سرية، وكافة أجهزتها تعمل -إذا عملت- فى سرية تامة.
ولا شك أن القائمين على المجلس الأعلى للثقافة لا يعرفهم المثقفون، وجاء بهم السيد الوزير ببراشوتات، بل منهم موظفات قد بلغن من السن عتياً، فتيبّست الثقافة فى شرايينهن، ولا عزاء لأساتذة الفلسفة الذين يشغلون رؤساء أقسام فى جامعاتهم ولا أساتذة العلوم السياسية الذين يملأون التلفاز المصرى ضجيجاً وعجيجاً وتحليلاً.
باختصار، لا يعترف المجلس الأعلى للثقافة الذى يشغل فيه رئيس لجنة القصة مقعده منذ أواسط التسعينات وآخر يشغل مقعد نائب فى البرلمان، ورغم ذلك يشغل مقعد رئيس إحدى اللجان السرية!!
ويسألون بعد كل ذلك: ماذا حدث للثقافة والمثقفين، ولماذا حدث فى مصر المحروسة تهافت لرواد ثقافتها، السبب بات واضحاً الآن، وهو سرية هذه اللجان.
لقد قتلوا الثقافة وتآمروا عليها بدءاً من أعلى رأس فى الوزارة وحتى رؤساء لجانها وأعضائها الميامين.
الجمعيات السرية فى الماضى كانت تلجأ إلى السرية لأنها تخشى بطش رجال الأمن المتعاملين مع الاحتلال، أما اليوم فكل شىء شفاف ونزيه، فلماذا إذن الإصرار على الكتمان والسرية؟ فالثقافة ملك الجميع، وهى كما قال وزير المعارف الأسبق «كالماء والهواء والشمس».
أنقذوا ثقافة مصر قبل فوات الأوان.