العنوان أعلاه ليس لى، ولكنه لأحد المبدعين الذين وجدوا فى مواقع التواصل الاجتماعى فرصة سانحة للتعبير عن الرأى والتأثير فى المجال العام، وراحوا يجتهدون فى استخدام الأدوات والوسائط الحديثة، ليطرحوا أفكارهم، ويبرهنوا على صحتها.
أحد هؤلاء الشباب استطاع أن يعد فيديو يصور تسع حالات لمخالفات إعلامية حادة، فى مدة تزيد على دقيقتين بقليل، وهو الفيديو الذى بثه عبر حسابه على موقع «فيس بوك»، تحت عنوان: «كيف تحاور ملحداً فى 120 ثانية؟». ربما نكون قد شاهدنا تلك المخالفات الإعلامية لحظة وقوعها، أو لعل بعضنا استطاع أن يرصد شيئاً منها خلال تصفحه «يوتيوب» لاحقاً، أو تلقى إحداها من بعض المتواصلين معه عبر وسائط «السوشيال ميديا»، لكن الأكيد أن تجميعها كلها فى نحو دقيقتين يعطينا فرصة أكبر للحكم عليها واستخلاص العبر والدروس منها. يوضح الفيديو المشار إليه كيف استضاف تسعة من مقدمى البرامج الرائجة على الشاشات المصرية أشخاصاً وصفوا أنفسهم بأنهم «ملحدون»، ويكشف عن اتفاق غريب
-كما لو كان قاعدة قانونية أو دليل ممارسة أو عقداً مكتوباً بين المذيعين التسعة- على اتباع طريقة واحدة لإدارة الحلقة. ويمكن استخلاص عناصر هذا «العقد» المزعوم، أو ذلك «الدليل» المفترض، من الطريقة التى تعامل بها المذيعون التسعة مع ضيوفهم، وتلخيصها على النحو التالى:
أولاً: ابتسامة رقيقة من المذيع/ المذيعة، وتحية ودودة للجمهور.
ثانياً: مقدمة (تبدو كما لو كانت مكتوبة وموزعة على المذيعين التسعة) تتحدث عن «حرية الفكر والاعتقاد»، و«ضرورة مواجهة الرأى بالرأى».
ثالثاً: اتفاق غريب على إيراد جزء من الآية 29 من سورة «الكهف» «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، من دون إيراد الآية كاملة، أو ذكر السياق الذى نزلت فيه، أو شرح التباين فى تأويلها بين العلماء المتخصصين.
رابعاً: التأكيد على دور الإعلام فى تسليط الضوء على الظواهر الشاذة والانحرافات الفكرية التى تصيب المجتمع وتؤثر فى شبابه.
خامساً: مقاطعة الضيف الذى يقدم نفسه على أنه «ملحد»، وعدم إتاحة الفرصة له للتعبير عن آرائه بحرية.
سادساً: طرح الأسئلة بصورة موحية Leading Questions، وادعاء امتلاك الحقيقة والطهر والإيمان، وإظهار الضيف فى صورة فاقد الأهلية أو «الكافر المنبوذ».
سابعاً: استعداء الضيف المناظر، وحضّه على الرد بقوة، وتعنيفه فى حال أخفق فى سحق الضيف الذى يقدم نفسه بوصفه «ملحداً».
ثامناً: الهجوم الحاد الخاطف على الضيف المسكين (الملحد)، وتوجيه أكبر قدر من الشتائم والإهانات له، وطرده على الهواء.
تاسعاً: التأكيد أن القناة «شريفة»، والمذيعة/المذيع «شريف»، والدولة «شريفة»، ولذلك، لا يجب أبداً السماح باستضافة هؤلاء «الملحدين»، لأن هذا خطأ فادح، قد يُسوّق لأفكارهم «المنحطة»، و«القذرة»، و«المريضة».
عاشراً: عدم تفسير التناقض بين استضافة «الملحد» وطرده، والترحيب به ولعنه، وبين «مواجهة الفكر بالفكر» وتعنيف المخالف وإهانته.
تلك آفة كبيرة من آفات الممارسة الإعلامية الحادة والمنفلتة المنكوب بها بلدنا للأسف الشديد، وبسبب تلك الآفة، نفقد الكثير من احترام الجمهور وثقته، وتتضاءل مصداقيتنا إلى أقصى درجة ممكنة.
يريد هؤلاء المذيعون الذين استضافوا «الملحدين» المفترضين أن يحققوا رواجاً، وأن يزيد «الترافيك» على برامجهم، وأن تتصدر أسماؤهم قوائم الـRating، وأن «يُشيّر» الجمهور فيديوهاتهم، وأن يصبحوا حديث الصحف فى الصباح، لكى يصنعوا «المجد»، وتزيد المداخيل الإعلانية لبرامجهم، ومعها الرواتب المنصوص عليها فى عقودهم. ويساعدهم فى سلوكهم الشاذ هذا طاقم من المعدين والصحفيين، الذين لا يقيمون وزناً لقيم العمل الإعلامى الرشيد، ولا يحترمون الضيوف، ولا يحفلون بالجمهور، ولا يهتمون سوى بتلبية رغبة المذيع/ النجم، والقائمين على القناة الفضائية. لكن هؤلاء المذيعين البائسين، وأطقم الإعداد المساعدة لهم، ومديرى القنوات، وأصحابها، لا يدركون أنهم بذلك يسحقون قيم المهنة ومعاييرها، ويحولون العمل الإعلامى الجاد المفترض فيه التوازن والموضوعية والرصانة إلى «اسكتشات» كتلك التى تقدمها الفرق المأفونة على خشبات مسارح الموالد الشعبية.
والسؤال الآن: ما الحل؟
فى الشهر الماضى، نشرت وسائل الإعلام خبراً موحياً عن قاضية لبنانية تدعى «جوسلين متى»، أصدرت حكماً غريباً بحق ثلاثة شبان مسلمين، كانوا قد أدينوا بإهانة السيدة العذراء مريم، وهو الحكم الذى اقتصر على إلزامهم بحفظ الآيات من سورة «آل عمران»، التى تتحدث عن السيدة مريم ومكانتها، ولما استطاع الشبان الثلاثة ترديد الآيات المطلوب حفظها، أطلقت القاضية سراحهم. شىء قريب من هذا حدث فى دبى، فى شهر مارس من العام المنصرم، حينما صُدم جمهور وسائل التواصل الاجتماعى بفيديو غريب، يصور قيام عدد من الشبان بإتاحة قطة حية لبعض الكلاب المتوحشة الجائعة، لكى تقوم الكلاب بنهشها، بينما هم يصورون المشهد، ويتبادلون الضحكات، وعبارات التشجيع، لإثارة حماس كلابهم.
لقد أمر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبى، آنذاك بإنزال عقوبة غريبة بحق هؤلاء الشبان المستهترين، الذين أظهروا قسوة ووحشية بالغة حيال حيوان ضعيف، وهى العقوبة التى تلخصت فى إلزامهم بتنظيف حديقة الحيوان فى دبى، لمدة أربع ساعات يومياً، على مدى ثلاثة شهور.
ما يمكن أن نفهمه من الحادثتين السابقتين أنهما تعبران عن مخالفات حادة ومزعجة، وأنهما تعكسان قصوراً أو خواءً وجدانياً لدى المتورطين فيهما، وأنهما تكشفان عن تهافت هؤلاء المتورطين معرفياً وافتقادهم للحس الإنسانى، وأن القوانين النافذة لا تفرض عقوبات رادعة بحقهم. ولهذه الأسباب مجتمعة، كان من الضرورى أن تبحث القاضية اللبنانية، والقائد الخليجى، عن وسيلة لإنزال العقاب اللائق بهؤلاء المتورطين، على أن يكون هذا العقاب وسيلة للتهذيب، والتعليم، ومعالجة القصور الوجدانى والمعرفى لهم فى آن واحد. وعودة إلى المذيعين الذين تضمنهم فيديو «كيف تحاور ملحداً فى 120 ثانية؟»، فإننى لا أطالب أبداً بحبسهم، أو تغريمهم، أو حتى توبيخهم، لأن كل هذا لن يشكل رادعاً، ولن يعالج العوار الوجدانى، والخلل المعرفى، الذى جعلهم يرتكبون هذه الأخطاء، والذى جعل غيرهم يقلدهم. فالأفضل من عقابهم هو تدريبهم وتعليمهم. وبالتالى، فيمكن أن يكون عقاب الزملاء من المذيعين والمذيعات، الذين لا يتوقفون عن ارتكاب الأخطاء الفادحة خلال عملهم -بشكل يسبب مشكلات أمنية، وسياسية، ودبلوماسية، واقتصادية، واجتماعية، وأخلاقية، وثقافية- مجرد تدريبهم وتعليمهم، عندما يرتكبون نوعاً معيناً من المخالفات. وعلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، المنوط به، وفق الدستور والقانون، الإشراف على صناعة الإعلام فى مصر، وتنظيمها، وتعزيزها، وضبطها، أن يضع ضمن لوائح العقاب التى يعدها للحد من ارتكاب المخالفات، عقوبة «التدريب». ولنتوقع، وفق هذا الاقتراح، أن يكون نص العقوبة الصادر بحق أحد الزملاء من المذيعين والمذيعات على هذا النحو: «وتتم معاقبته/ معاقبتها بالخضوع لدورة تدريبية، مدتها أسبوعان، قبل أن يسمح له/ لها بالعودة إلى الشاشة».
وخلال هذين الأسبوعين، سيكون المذيع/ المذيعة قد اضطر لمعرفة أسس عمله، والقيم والمعايير التى يجب أن يتبعها خلال أدائه، التى ليس منها بطبيعة الحال أن تدعو ضيفاً إلى الاستوديو لكى تطرده.