لا يختلف صغار الآدميين عن صغار الثدييات بعامة، فى أن كل ما تأتيه تقليد ومحاكاة مستمد من المحيط، وأن كل ما تدخله على المحاكاة من تعديل أو تطوير الصورة بما يتفق مع ميولـها النفسية وقدراتها العقلية والبدنية، يأتيها بدوره من خلال التقليد، شأنها فى ذلك شـأن صغار الثدييات، تعيش حياتها الأولى بتقليد الكبار تقليداً لا إرادياً فى الأعـم الأغلب، خاصة فى مجال الأنشطة الحيوية كالأكل والحركة والهرب.. ومع نمو الإحساس بالذات المصاحب لنمو القدرات، يبدأ الآدمى فى تقليد الأباعد وفى الزهو بمخالفة الأقربين.. ويبدو هذا واضحاً وأكثر جلاءً فى طور المراهقة حيث يبدأ الاتصال بمحيط أكبر وأوسع من البيت والوالدين والإخوة، ومع التقدم فى السن ينفرج أمامه الباب لينفتح تدريجياً على مصراعيه للتقليد الإرادى المبنى على الاختيار الشخصى أو على الاختيار الجماعى.. هذا ويصحب عملية التقليد تعديلات جزئية تختلف من شخص لآخر، تمليها ميول الشخص وخصوصية قدراته العقلية والبدنية.
التجارب الشخصية
ومع تجارب الشباب وما يليه من مراحل العمر تعتبر التجارب الشخصية مجالاً أساسياً من مجالات التقليد الإرادى وغير الإرادى. ولا يوجد آدمى، ولم يوجد قط، استطاع أن يتتبع كل أو معظم خيوط التقليد الكثيفة المتراكبة المعقدة التى منها يتألف تفكيره وخياله وعاداته وأخلاقه وأذواقه.. فما هى إذن فردية الآدمى ومبنى شخصيته؟
فردية الآدمى ومبنى شخصيته
فيما يبدو لى أن هذه الفردية هى «فردية» و«شخصية» عملية التقليد ذاتها.. فكل تقليد يحمل طابعاً شخصياً للمقلِّد لا يشترك فيه غيره. بهذا المزيج الذى يجمع بين «التقليد» والطابع الشخصى يتشكل أو يكون لكل فرد وجود خاص وروح خاصة لها كما يقولون لونها وطعمها.. تنعكس على سلوكه وأخلاقه وعاداته على نحو ينفرد به طول حياته، وتبقى ذكراه فى ذاكرة من يعرفونه، أو يعرفون من يعرفونه متميزة عن غيره ممن عرفوهم.. ويظل هذا التميز معروفاً لزمن قد يطول قروناً حسب حاله وحالهم.
فمكونات الآدمى غير المادية أو غير الجسدية تشبه من هذه الناحية مكوناته الجسدية.. فهذه تماثل مكونات أجسام أفراد النوع الإنسانى، لكنها لا توقع لبساً بين الأفراد، ولا تحول دون فردية وشخصية وتميز كل منهم.. لأنه برغم وحدة العناصر المكونة وتماثلها، يحمل كل فرد طابعاً شخصياً ينعكس على مرآه ومسمعه وسحنته وحركاته وسكناته برغم وحدة العناصر المكونة وتماثلها فى الجسد فى جميع أفراد النوع الإنسانى.
فالطابع الشخصى الذى يتميز به كل آدمى عن غيره فى عملية التقليد والمحاكاة، وهى عملية جوهرية مشتركة عامة لا تنقطع أبداً عن الآدمى ما دام حياً. هذا الطابع الشخصى المميز هو الذى يبنى فردية الفرد وشخصيته، وهو الذى يظهر هذه الفردية رغم وحدة المكونات غير المادية الأساسية وتماثلها لدى جميع الأفراد.
الأفكار والمصدقات العامة
وطبيعى أن تكون الأفكار العامة والمصدقات العامة والأساليب العامة للتفكير واحدة فى المحيط أو فى العصر، ولكن ليس طبيعياً أن تكون صورها واحدة لدى كل فرد، أو أن يكون تعلق كل فرد بكل منها تعلقاً بذات القدر أو الوزن أو الشكل.. لأن لكل فرد طابعه الشخصى الخاص به المتفق مع ميوله النفسية وقدراته العقلية والبدنية ومع استعداداته المولود بها، وهذا الطابع الشخصى المنفرد هو الذى يحدد خصوصية الأفكار والمصدقات والانطباعات والأساليب التى تختلف فيها فردية الشخص عن سواه. وذلك الطابع الفردى ليس خِصْماً ولا خَصيماً ولا نقيضاً لعملية التقليد دائبة الحصول بلا انقطاع بين جميع أفراد النوع، وإنما هذا الطابع مكمل ولازم من لوازمها الحيوية ليضمن أن تظل المحاكاة عملية تربية من أجل تطور ولمزيد من الحركة، ويضمن بالتالى ألا تصير عملية التقليد تكتيفاً وتقييداً وركوداً وتجميداً ينتهى بالضمور أو بالانقراض!!
كل القمم البشرية من أول الدهر قلدت وماتت وهى تقلد، لأنها عاشت حياة البشر التى لم تستغنِ ولن تستغنى قط عن التقليد؛ إذ ليس عنه غنى لوجود الجماعات صغيرها وكبيرها ولعمار أرض الله.. بل لا بديل عنه لإقامة الحضارات ولكل صور التطور وتقدم العلوم والفنون وانتشار الإنسانية وإعلاء رايتها فى العالم. كل عظيم من القمم البشرية قديمها وحديثها مقلد وكان مقلداً وسيظل ما يجود بهم الزمان مقلدين ما داموا آدميين.. لا يخرج أحد فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل عن دائرة التقليد لأنه آدمى اعتنق ويعتنق وسيعتنق أفكارا وآراء وتصورات ومعارف.. موجودة قبله أو وُجدت مع وجوده.. فى محيطه أو فى عصره.. ورحّبت بها استعداداته الفطرية واتفقت مع قدراته العقلية والبدنية، وأسس عليها أخلاقه ومشاربه وأذواقه، وتدخلت من ثم فى اتجاهاته واهتماماته وأعماله.. وقد اختارت عناية الله عزّ وجل بعض هذه القمم الإنسانية للهداية والقيادة عندما حان الوقت المناسب وتوافر الظرف الملائم واستعداد الناس للقبول، وكان هذا البعض أعرف الناس بالناس وأصبرهم عليهم وأقواهم عقلاً وبدناً على إبلاغ رسالة الله عزّ وجل وإنجاحها فنجحت بفضله سبحانه وكرمه.
تكيف التقليد وجدواه
هذا التقليد الذى نتحدث عنه انتفاع إرادى أو غير إرادى، وتعلّم واستعمال لحواسنا ووعينا لما نشاهده أو نقابله أو نقرأه أو نسمعه أو نتصل به بشكل أو آخر.. وهو شىء طبيعى ومشروع مشروعية كاملة وواجب فى حياة كل آدمى، وهو خلاف الادعاء الكاذب الذى ينسب فيه الآدمى إلى نفسه على سبيل الانتحال والمباهاة رأياً أو فكراً أو فعلاً أو تركاً يعلم أنه ليس صاحبه ولا فضل له فيه!
وتعليمنا كله فى كل العصور لم يستغنِ عن هذه المحاكاة المشروعة.. وهى مبنى كل تراث الإنسانية الذى يقوم على تراكماته التعلم والتعليم والنقل والحفظ والتدوين والتأليف.. ليقرأ الكل ويكرر ويعيد أى آدمى نفس الشىء ويتبنى الكل نفس ما تبناه معه الألوف والملايين من أمثاله. ذلك أن حياة الأفكار والمعنويات فى انتشارها وذيوعها، وموتها فى انحصارها واحتكارها!.. وعلى هذا الأصل وجد العلم والفن والفلسفة والدين والأخلاق وكل ما لدى الإنسان مما هو قيّم باقٍ.. وعلى هذا الأصل نفسه تعيش وتثرى هذه القيم ويتطوّر معها النوع البشرى إلى ما شاء الله له من التطوّر.
أبواب الابتكار والإبداع
وليس معنى هذا أن أبواب الابتكار والإبداع مغلقة.. فالتقليد والمحاكاة لا يوقفان مهارة الماهر ولا ابتكاراته فيما يرى ابتكاره فيما يمارسه من الأعمال والفنون والآداب.. ولا يحجران على إبداع المبدع الذى يجاوز المهارة والإتقان، ويجاوز الابتكار، إلى دائرة الإبداع الذى إليه ثمرة ما قدمته قمم فذة فى العلوم والآداب والفنون..
والإبداع البشرى هو الإتيان فيما تعلم الإنسان مباشرته والتفكير فيه بشىء لم يسبقه إليه سابق أو بشىء على درجة عالية من التفوق لا يبلغها الناس حتى الماهرون منهم جداً. ويستحيل محاكاتها على من يحاول. وهذا الإبداع يقتضى وجود ما يجوز اكتسابه بالتعلم أى بالتقليد والمحاكاة الإرادية وغير الإرادية.. فهو خلق من خلال مراحل التعلم والمحاكاة وليس خلقاً من لا شىء أو من العدم.. ولا نسميه خلقاً إلّا من باب التجاوز أو التشبيه أو الكناية، لأن الخلق من العدم لا يصدر عن المخلوقات، وإنما يصدر من الخالق وحده تبارك وتعالى.
محض خواطر ورغبة فى التنبيه
وهذه الخواطر التى شئت أن أطرحها، ليست ابتكاراً ولا إبداعاً، وهى لا تعدو أن تكون استقراءً وتواصلاً مع محاولات مشابهة سبقت من آخرين.. ليس فيها أى إبداع، وإنما هى محض رغبة فى التنبيه إلى أمور تبدو جوهرية، يُساء إليها بدعاوى الأصالة والإبداع والكشف. هذه الدعاوى المغرقة فى الخيال والمبالغة والإفراط فى التشهِّى والمؤدية إلى مزيد من اللبس والبلبلة والعتامة فى عالم اليوم الذى يعانى ما يعانيه ويكفيه ما يلاقيه من شجون!!