كنت قد تحدثت فى مقالين سابقين عن مفهوم «القوى الذكية»، التى هى مزيج ما بين القوى الخشنة والقوى الناعمة، وأشرت كذلك إلى كيفية بناء الاستراتيجية المُثلى لتطبيقها، وذلك من خلال توفير خمسة متطلبات أساسية، كما مررت أيضاً على الجناحين الأساسيين اللذين يجب أن تستند أو ترتكز عليهما تلك القوى «القوى الذكية»، وأخيراً رأيت أنه ربما يكون من المفيد أن أوضح ما سبق من سرد نظرى بمثال واقعى معاصر، لذا فقد وقع الاختيار على استراتيجية أمريكا فى كيفية استخدام قوتها الذكية ومجالاتها التطبيقية فى كل من مصر، تونس وليبيا.ونبدأ بمصر وتونس: حيث نلاحظ كيفية توظيف القوى الناعمة والمتمثلة فى الأداة التكنولوجية الحديثة «الإنترنت» فيما حدث من تعبئة جماهيرية قبل وأثناء وبعد حالة تغيير الأنظمة، وذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعى (فيس بوك، يوتيوب، تويتر..... وغيرها)، وقد بات واضحاً تماماً لنا الآن (خاصة بعد قضية أو فضيحة «مارك زوكربيرج» الأخيرة، التى تتلخص فى حصول شركة «كامبريدج أناليتيكا» للاستشارات السياسية على البيانات الشخصية لنحو 50 مليوناً من مستخدمى موقع «فيس بوك»، واستخدامها لأغراض سياسية وليست تجارية فقط)، الأمر الذى يثبت لنا بدون أدنى شك أن معظم مواقع التواصل الاجتماعى ما هى إلا مواقع تجسّسية لجمع معلومات عن الشعوب، ولها ارتباطات وثيقة بالإدارة الأمريكية، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، وعليه نجد أن الولايات المتحدة خططت وقامت بعمليات تعبئة للرأى العام المصرى والتونسى، واستطاعت بالفعل أن تجمع الآلاف من المواطنين لإسقاط نظام «بن على» فى تونس، ونظام «مبارك» فى مصر، مستغلة فى ذلك ترهل وطول فترات نظام الحكم فى البلدين، بالإضافة لسوء وتردى الأحوال المعيشية، وبخاصة الاقتصادية منها لقطاعات عريضة جداً من الجماهير.وقد استخدمت أمريكا تلك الأداة أيضاً فى مشروعها لتغيير بعض الأنظمة حول العالم وليس فى العالم العربى أو الشرق الأوسط فقط، وهى ما تندرج تحت إطار «القوى الذكية» وتحديداً «الناعمة» منها، وهو ما يتطابق كذلك مع ما ذكرناه مما جاء على لسان «جوزيف ناى» فى فكرة عدم الاعتماد على القوة العسكرية المباشرة وإنما يجب تفعيل أدوات أخرى فى عمليات التغيير بمنطقة الشرق الأوسط تحديداً.وأعتقد أن هنا نقطة هامة جداً وجب الإشارة إليها، حيث إننا نستطيع أن نلاحظ الآن مدى تقدم الطفرة التكنولوجية الحديثة، التى تتطور بسرعة فائقة جداً تجعل الإنسان العادى غير قادر على أن يميز بين ما ينفعه وما يضره من هذه التكنولوجيا، وكما ذكر «ناى» بأن «القوى الناعمة» هى قدرة بلد ما أن يؤثر فى بلدان أخرى، بحيث تجعل الشعوب تتأثر بتجارب أخرى فى طرق ممارسة الحكم وتطبيق الديمقراطية -أى توجيه خياراتها العامة- وذلك ارتكازاً على جاذبية النظام الاجتماعى والثقافى ومنظومة القيم والمؤسسات لتلك الدولة، وهى تجذب الشعوب إما من خلال أدوات القوى الناعمة الدبلوماسية الخاصة والعامة (كالمنظمات الدولية، والشركات والمؤسسات التجارية و......) أو من خلال التأثير فى الثقافة الشعبية، وذلك بجعل الشعوب تأخد ما تريد، ووهمها بأنها فعلت ذلك بكامل إرادتها، مستغلة بالطبع ما تعانيه من فقر وجهل وظلم.وأما بالنسبة لليبيا: فالعمليات العسكرية كانت هى المثال لـ«القوى الذكية» (الصلبة)، وإن كانت تلك العمليات ليست أمريكية بصورة مباشرة، ولعلى أرى أن أمريكا كانت تهدف منها لتحقيق أمرين: ربما كان الأول: هو إسقاط نظام القذافى بدون صرف أموال طائلة فى حرب تقليدية، والثانى هو إيصال رسالة إلى أوروبا متمثلة فى (الناتو) أنها ليست بقوة ولا قدرة الولايات المتحدة، ولا تستطيع أن تنفذ عمليات وحدها.وخلاصة القول إن تحقيق قوة ذكية ناجحة يتطلب إدراك أن القوة الصلبة ضرورية ولكن تعظيم تحقيق المصلحة القومية قد يحتاج إلى المزج بين القوتين الصلبة والناعمة.