خمسة أيام تفصلنا عن المحاكمة الكبرى للرئيس الإخوانى المعزول محمد مرسى، تلك المحاكمة التى ينتظرها كثيرون فى داخل مصر وخارجها. وعلى عكس ما نعرفه بمحاكمة القرن للرئيس الأسبق مبارك، والتى لم تنته فصولها بعد، فإن محاكمة مرسى تستحق عن جدارة أن تكون محاكمة القرن، فهى ليست محاكمة لشخص شغل منصب الرئيس ولم يفلح فيه، بقدر ما هى محاكمة لجماعة ولمنهج ولرؤية دأبت على توظيف شعارات دينية وتطمع فى السلطة الدنيوية وتفعل من أجلها كل الموبقات، وهى توليفة فكرية وحركية ثبت بالدليل القاطع للمصريين جميعا أنها توليفة خطيرة وضارة بالوطن ومؤسساته.
ومجرد أن تبدأ المحاكمة سوف تتأكد إرادة الدولة المصرية وإرادة شعبها بأن القانون لا بد أن يأخذ مجراه، وتتأكد أيضاً الإرادة الشعبية فى مواجهة كل خطط ومؤامرات إنهاك الدولة، خاصة مؤسساتها الأمنية والتى تتحمل عبئا فوق الطاقة، ولكن برضا وحب لمصر وشعبها. والأهم أن عقد المحاكمة كما هو مقرر سوف يُسقط كل تلك الأوهام أن بقدرة الإخوان وحلفائهم وقف المحاكمة أو منعها بالقوة والحشود الغاضبة وأعمال الإرهاب الآثمة.
محاكمة مرسى المعزول ثوريا، سوف تضع أكثر من حد فاصل بين عدد من الأمور المتشابكة الآن، والتى تسبب إلى حد ما نوعا من الحيرة وغياب اليقين لدى قطاعات كبيرة من المصريين، والذين أملوا حين نزلوا فى 30 يونيو أنهم أغلقوا فصلا كئيبا من حياتهم، وفتحوا بابا أكثر إشراقا لمستقبلهم الجماعى، ولكنهم لم يجتازوا بعد عتبات المدخل إلى عمق الأمل المنشود، ويحول دون ذلك كل هذا اللغط والخراب والقتل الذى جرى فى الأشهر الأربعة الماضية، على أيدى جماعة الإخوان المحظورة وحلفائها من الإسلاميين والقاعديين الواهمين بأن العنف والقتل كفيل بأن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
وحين يدخل الرئيس الإخوانى المعزول قفص المحاكمة، سوف تنتهى قصة جماعة سرية، لا يعترف بها قانون، سعت إلى حكم مصر، ونجحت فى ظل ظروف غريبة عجيبة وغفلة من البعض فى الوصول إلى أعلى مراتب السلطة فى مصر لمدة عام كامل. ونظرا لما تحمله هذه الجماعة من أنانية مفرطة وعدم اعتراف بالوطن، ومنظور فاسد للحكم ونهم شديد للاستحواذ على مقدرات الدولة لحسابها الخاص، تصبح محاكمة مرسى، ورغم أنها ذات طابع جنائى بحت تتعلق بالتحريض على ترويع وقتل وتعذيب متظاهرين سلميين ومواطنين عاديين بالقرب من أسوار قصر الرئاسة فى ديسمبر الماضى، بمثابة محاكمة لهذه الجماعة وأطروحاتها الفكرية وآلياتها التنظيمية، فضلا عن محاكمة قادتها الفاشلين، مُجسدين فى صورة مرسى المعزول، وهم القادة الذين دفعوا المجتمع ككل إلى الوقوف ضد جماعتهم بعد أن كان هناك داخل المجتمع من دافع عن حق الجماعة فى أن تحصل على شرعية العمل السياسى وفق القانون والدستور.
وحين تبدأ وقائع المحاكمة سيكون لدينا الدليل العملى والموضوعى بأن التحفظ على الرئيس المعزول فى مكان آمن ليس نتاجا لتعسف السلطة الجديدة، كما يروج البعض، وإنما هو إرادة ضرورية للحفاظ على حياة الرجل وإتاحة الفرصة له أمام القاضى الطبيعى فى أن يدافع عن نفسه بأى صورة كانت. وأذكر هنا أن السفير الهندى فى لقاء المجلس المصرى للشئون الخارجية مع عدد من السفراء الآسيويين يوم الخميس الماضى، تساءل عن مبررات إخفاء مرسى، ومضيفا هل لدى السلطات الجديدة القرائن والأدلة التى تدينه فيما هو منسوب إليه؟ وهو سؤال عكس نوعا من عدم الارتياح لسجن رئيس كان منتخبا، ورغبة فى الحصول على معلومات موثقة بطبيعة الاتهامات التى تبرر هذا التحفظ. وهو سؤال لا يقتصر على المجال الدبلوماسى فى آسيا، إذ يمتد إلى نطاق أوسع ما زال يرى أن «سلطة الانقلاب» تعزز نفسها بإخفاء الرئيس دون أن يكون لديها أدلة مقنعة للمحاكمة والإدانة. ولذا ستكون المحاكمة بما سيقدم فيها من أدلة ثبوت وقرائن على التورط فى فعل جنائى بحت، خطوة رئيسية نحو إسكات مصادر عدة لنقد عملية العزل الثورى الشعبى للرئيس الإخوانى، وأن تكون رسالة للكافة فى الداخل والخارج بأن عهد مرسى رغم قصره زمنيا لكنه شهد جرائم خطيرة تستوجب المحاكمة الناجزة، وأن قضاء مصر الشامخ كفيل بحفظ الحقوق وحسم الاختلافات.
ومع بداية وقائع المحاكمة يستقر يقينا أن مرحلة جديدة تماما بدأت فى حياة التنظيم، والذى رغم حظر جمعيته «الافتراضية» من الناحية القانونية والقبض على عدد كبير من قياداته الوسيطة التى تورطت فى أعمال إجرامية، فإن طبيعته السرية تتيح له الاستمرار لبعض الوقت. وهنا يأتى دور ومسئولية الأجيال الجديدة والعناصر الشبابية التى يتأجج بين بعضها مزيج من مشاعر النقمة على قيادات فاشلة، منها المسجون ومنها الهارب، لم تستوعب طبيعة الشعب المصرى ولا تاريخ مؤسساته، ويسودها أيضاً الخوف على التنظيم من التفكك. ولربما أدت صورة الرئيس المعزول وراء القضبان إلى هياج البعض من أتباع التنظيم ومحاولة الانتقام من المجتمع ومؤسساته، وهو أمر متوقع حسب كل الدلائل، ولكن ستظل الحقيقة الساطعة أن عهد مرسى لن يعود، وأن الأوفق أن تكون هناك مراجعة كبرى لتجربة الثمانين عاما الماضية لتنظيم دأب على الدخول فى صراع ضارٍ مع السلطات الحاكمة، سواء كانت ملكية أو جمهورية، وكانت النتيجة فى كل مواجهة مهما اختلفت الظروف هى فشل التنظيم وحله واعتقال قياداته وملاحقة الهاربين منهم وانغماس البعض فى أعمال عنف وإرهاب. هذه المراجعة التى يتحدث عنها بعض عناصر شبابية وأخرى وسيطة تعتبر الخيار الوحيد والملاذ الآمن لمن سيظل يعتقد بصوابية فكر الإمام البنا، شريطة أن يؤمن أيضاً بمصرية التنظيم أو الجماعة الجديدة وحق الوطن والانصياع للقانون، والأهم أن ينهى تلك العلاقة الآثمة العابرة للحدود مع تنظيم دولى يشن حربا حقيرة ضد كل ما هو مصرى.