لم تدهشنى إثارة القضية المتعلقة بـ«واحة الجغبوب»، على هامش ندوة مؤسسة الأهرام الشقيقة 29 يوليو الماضى، بعنوان «ليبيا وتحديات الأمن القومى»، بحضور العميد أحمد المسمارى، المتحدث الرسمى للجيش الليبى، والناطق باسم القائد العام، فهى امتداد لملاسنات بين باحثين وكتاب، ليبيين ومصريين، البعض يؤكد مصريتها، والآخر يبرر ليبيتها، والثالث أشار إلى اتفاق تبادل بين سيوة و«الجغبوب» وقّعته بريطانيا وإيطاليا 1925.. جدل بالغ الخطورة، يعكس انزلاقاً نحو مواقع الألغام بالمنطقة.. إثارة القضية تتم ضمن مؤامرة، تستهدف العلاقات المصرية - الليبية، والتعاون الذى مكّن الجيش الليبى من تطهير بنغازى، واسترداد الهلال النفطى، وتصفية إرهاب «درنة»، وفرض الأمن والاستقرار بالمنطقة الشرقية.. الحديث عن تبعية «الجغبوب» انسياق جهول لمخططات الإخوان المغرضة.. دعونا نتعرف على القضية، ونحاول سبر أغوارها.
«الجغبوب» واحة تبعد 125 كيلومتراً شمال غرب سيوة، تتبع طبرق الليبية إدارياً وتبعد عنها 286 كيلومتراً، فى اتجاه الجنوب الشرقى.. والقضية برمتها تتعلق بدور الإخوان ضمن صراعات القوى على الساحة الليبية.. مفوضية الانتخابات بطرابلس بدأت تسجيل الناخبين أوائل ديسمبر 2017، بعد توافق الأطراف السياسية الفاعلة على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية قبل نهاية 2018، على الفور أقام محامٍ مصرى شهير دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة، برقم 11945 لسنة 72 قضائية، اختصم فيها رئيسَى الجمهورية والوزراء، ووزير الخارجية بصفاتهم، وطالبهم باتخاذ جميع أوجه التقاضى لضم «الجغبوب» للأراضى المصرية، باعتبارها جزءاً من الإقليم المصرى، وقدم بعض الخرائط والمستندات.. دائرة المفوضين بالمحكمة تداولت القضية، وأجّلت النظر فى الدعوى إلى 20 سبتمبر 2018، للبتّ فيها.
المحامى المذكور كان أحد مقيمى دعاوى حل إخوان مصر، وأقام دعوى أخرى «نوفمبر 2017» لطلب إيقاف «حملة علشان تبنيها»، لترشيح «السيسى» لفترة رئاسية ثانية، باعتبارها غير شرعية، ومخالفة للقانون والدستور.. التناقض بين الدعويين مثير للتساؤل، الأولى ضد الإخوان، والثانية معهم، فما سر هذا التغيير؟!.. الحقيقة أنه انعكاس لموقف بعض السياسيين الليبيين المنتمين للنظام السابق، المقيمين بمصر، والذين تطورت علاقته بهم، منذ أن كان موكلاً للدفاع عنهم، لمنع الحكومة المصرية من تسليمهم لليبيا.. هذه المجموعة تمثل إحدى القوى الرئيسية المتصارعة على الساحة الليبية، بحكم قدراتها التمويلية، وثقلها بين القبائل الكبرى.. القوى السياسية الأخرى «حفتر، السراج، الإخوان» تصارعت على استقطابهم، لكن قطر كانت الأسبق.. الدوحة استقبلت فى مايو 2016 محمد صوان وعلى الصلابى ممثلين لـ«إخوان ليبيا»، وعدداً من الشخصيات القيادية الممثلة لنظام القذافى، وتوصلت إلى مصالحة واتفاق تعاون، تم بمقتضاه الإفراج عن السجناء السياسيين، وعلى رأسهم سيف الإسلام القذافى وعبدالله السنوسى، وأبوزيد عمر دوردة.. الاتفاق أجهض محاولات التنسيق بين المجموعة و«حفتر».
معظم أنصار النظام السابق توافقوا على ترشيح «سيف القذافى» للرئاسة الليبية، والإخوان قرروا المراهنة عليه، استناداً للعلاقة الخاصة التى كانت تربطه مع الإخوانى على الصلابى، واتفقوا على إزاحة المشير خليفة حفتر كمنافس رئاسى.. تحريك دعوى «الجغبوب» كانت بداية لحملة تعبئة جماهيرية واسعة، تستهدف إثارة مخاوف الليبيين، من أن مصر لها مطامع فى الأراضى الليبية، وإذا ما وصل المشير للرئاسة، فإنه سيسلم أراضى ليبيا وثرواتها للمصريين.. وتستهدف أيضاً حرمان «حفتر» من التعاطف الشعبى، الذى حققه بنجاحه فى فرض الأمن والاستقرار بالمنطقة الشرقية، واستعادة روح الدولة وخدماتها للمواطن.
الأهداف السياسية للإخوان من إثارة دعوى «الجغبوب» متعددة.. التشكيك فى تمسّك النظام المصرى بالتراب الوطنى، بالربط بينها وبين جزيرتى تيران وصنافير، متغافلين أن «كبيرهم الذى علمهم السحر»، كان ينتوى التفريط فى أراضى الوطن، جزء للسودان بالجنوب، وآخر لقطر بإقليم القناة، وثالث لتوطين الإرهابيين بسيناء.. «الجغبوب» مؤامرة تستهدف تأليب المواطن الليبى على أشقائه المصريين، وإظهار الموقف الراهن وكأنه طمع فى الثروات الليبية من نفط ومياه، ينتظر الفرصة للاستيلاء عليها.. إثارة القضية تتزامن مع نجاح، لمسه المراسلون الأجانب الذين زاروا شمال سيناء، وتجولوا بكل حرية فى مدنها وقراها، شوارعها ودروبها، ليشهدوا هزيمة الإرهاب، نتيجة للعملية الشاملة «سيناء 2018».. المؤامرة تتضمن أيضاً الترويج كذباً بأنه ضمن ما يتردد عن «صفقة القرن»، فإن هناك نية لتهجير بعض الفلسطينيين إلى سيناء، مقابل إرضاء مصر بالتوسع غرباً على حساب ليبيا!!.. مؤامرة كبرى متعددة المحاور والأهداف.
وللأسف الشديد دخلت حكومة السراج طرفاً داعماً لحملة الإخوان، اعتبرت تناول القضاء الإدارى المصرى للقضية المرفوعة موقفاً عدائياً من مصر، مع أن الدعوى فردية، ولا تُعبر عن وجهة نظر الدولة، التى لم يصدر عنها أى موقف رسمى يتعلق بمطالبات حدودية خاصة بشقيقتها ليبيا.. والقضية لم يصدر الحكم الابتدائى فيها، وحتى حال صدوره، فهناك مراحل عديدة للتقاضى، والأهم أن السوابق فى قضية جزيرتى تيران وصنافير أكدت أن الموقف الرسمى لمؤسسات الدولة المصرية لا تحدده أحكام المحاكم الابتدائية، ولا يتردد فى مواجهتها بإجراءات تقاضٍ تتوافق والقانون والدستور.. مصر يا سادة دولة مؤسسات عميقة، لذلك لم يكن هناك موضع لدفاع إبراهيم بوشناف، وزير داخلية السراج، عن هوية «الجغبوب» الليبية، ولا محاولة تفنيد الادعاءات التى وردت بالدعوى، ولا معنى لمطالبة محمد عمارى، عضو المجلس الرئاسى للمجتمع الدولى، بإيقاف «عبث السلطات المصرية بالأراضى الليبية».. المشاركة الصريحة لحكومة السراج فى حملة التعبئة ضد حفتر ومصر، هى العبث بعينه.
«الجغبوب» قضية لها زوايا عديدة ومتشعبة، تتنازعها وجهات نظر متباينة، لكن إثارتها ضرب من الجنون، واستعادة لماضٍ يُفسد الحاضر، ويفرق المتضامنين.. إذا جاز لنا استعادة الماضى، فليكن اجترار ذكرى مشاركة عبدالفتاح يونس وخليفة حفتر وأحمد قذاف الدم فى معارك أكتوبر 1973، وحصولهم على أوسمة النجمة العسكرية المصرية، والنظر لاحتضان مصر، الوطن الثانى لليبيين، مئات الآلاف منهم بعد فوضى فبراير 2011.. أليس ذلك هو الأجدر بالرعاية يا سادة؟!.