هذا العنوان شطر من بيت من قصيدة، رثى بها نفسه، من قرابة سبعمائة عام، الوزير الشاعر الأديب لسان الدين بن الخطيب. وسأعود إلى قصته.
وإنما ذكرنى به اليوم، ما جعل يطرأ علينا من شماتة فى الموت لم تكن من خصالنا، ولا هى من الدين فى شىء. طالعنى من يشمتون فى موت فنانة لأنها فى نظرهم لا تستحق إلا الموت عقاباً على نوع فنها الذى لا يرتضيه الشامتون، وهناك من يشمتون فى شهداء الإرهاب من المصريين وغير المصريين، وأطالع من وقت لآخر من يشمتون فى الحكم بالإعدام، سابقين حتى كلمة القضاء النهائية، وغافلين أن المعدم قد يظهر فى مقبل الأيام بريئاً مما علق به وأعدم عنه، وهناك عشرات الأمثلة فى التاريخ الشرقى والغربى لأحكام قضائية قضت بالإعدام ثم ظهر بعد سنوات طالت أم قصرت أن الحكم كان ثمرة خطأ قضائى عاصر الحكم ولم يُعْرف إلا بعده، وأن من أُعدم كان بريئاً مما نسب إليه.
فى عام 2008، أصدرت أستراليا عفواً عن أسترالى يدعى «كولين كامبل» بعد ستة وثمانين عاماً من إعدامه عن اغتيال عرض وحياة طفلة فى الثانية عشرة، ثم استبان بعد هذه السنين أنه أعدم مظلوماً بأدلة مغلوطة عن جريمة لم يرتكبها، وإذ لم تملك السلطات أن ترد إليه حياته، فإنها ردت الاعتبار إلى اسمه.
وفى قضية شهيرة بفرنسا بالقرن قبل الماضى، أمضت «مدام بولين» فى السجن عشر سنوات ظلماً بتهمة أنها قتلت بالسم زوجها وأخاها، قبل أن يظهر للسلطات أن تسممهما جاء من «قمينة» جير حى خلف العقار، تسلل منها غاز أول أكسيد الكربون السام من شقوق فى الجدار، يومها -ولحسن الحظ لم تكن قد أعدمت- لم يملك القضاء الفرنسى إلا أن يعيد محاكمتها، وأن يترافع عنها «الأفوكاتو العمومى» طالباً الحكم ببراءتها ومعتذراً عن هذا الخطأ القضائى الفظيع. ومع ذلك لم ينج الأفوكاتو العمومى من لوم وتقريع محاميها الذى تساءل: هل يستطيع أحدٌ أن يرد إليها السنين العشر التى أمضتها فى السجن، وأثر ذلك على طفلتها الرضيعة التى ظنت طوال هذه السنوات أن أمها قتلت أباها وخالها؟!! لقد كانت هذه المأساة داعية لأن يضاف باب «لالتماس إعادة النظر» فى الأحكام النهائية فى القضاء الفرنسى، وعنه أخذ قانون الإجراءات الجنائية المصرى.
وهناك من أعدم عن جريمة قتل، ثم ظهر المجنى عليه حياً بعد إعدامه.
وهناك «جان دارك» التى أُعدمت حرقاً عام 1431م بتهمة الهرطقة، ثم أذن البابا بإعادة النظر فى محاكمتها بعد خمسة وعشرين عاماً من إعدامها، فقضى ببراءتها من التهم التى أعدمت عليها، وبعدم شرعية محاكمتها، وعقب ذلك أعلنت الكنيسة عام 1920م أنها قديسة شهيدة، بعد خمسة قرون من إعدامها حرقاً!
وإبان القرن السابع عشر، أدان القضاء الإنجليزى وحكم بإعدام جون وريتشارد بيرى وأمهما جوان بيرى، بتهمة قتل من يدعى «وليم هاريسون» عمداً مع سبق الإصرار والترصد، وبعد أكثر من سنتين من إعدام الثلاثة ظهر المجنى عليه حياً يرزق!
وفى إيطاليا، روع الرأى العام بعد تسع سنوات من الحكم بالإعدام الذى تخفف لحسن الحظ إلى المؤبد، روع بظهور القتيل حياً بعد أن أدين أخوه بقتله منذ تسع سنوات.
ماذا لو كان حكم الإعدام سديداً؟
هذه الأمثلة العديدة لأخطاء قضائية أدت للإعدام بغير حق، لا تعنى أن عدم الشماتة فى الإعدام مرده فقط إلى احتمال الخطأ. فافتراض الصواب لا يعنى ولا يبرر الشماتة فى الموت. للموت فى ذاته جلال دعا شاعرنا الفذ صلاح جاهين لأن يقول فى إحدى رباعياته الشهيرة: الموت ما بقالهوش جلال يا جدع.. الحزن زى البرد زى الصداع.
لذلك فإن الدول المتحضرة التى لا تزال تأخذ بعقوبة الإعدام، حظرت تنفيذ أحكام الإعدام علناً، احتراماً لجلال الموت. الشماتة فى ذاتها كريهة، فى الأخلاق، وقبل ذلك فى الأديان.
شماتة الإرهابيين فى إزهاق الأرواح
فى مشاهد عدة، رأينا من يتشحون بالدين، ويقتلون ويذبحون ويطيرون الرءوس باسمه، يظهرون الفرح بما أزهقوه من أرواح، وكأنهم فى فرحهم وشماتتهم عصيون على الموت، يعيشون أبداً، ولن يجد الموت سبيلاً إليهم!
فهل القتلة الشامتون، لا يموتون ولن يموتوا؟!
إلى هذا المعنى أومأ الوزير الشاعر الأديب «ابن الخطيب» بالقصيدة التى رثى بها نفسه فى محبسه، بعد أن تآمر عليه الأوغاد، وكادوا له، واتهموه ظلماً وجوراً وكذباً بالكفر والزندقة والخروج على الشريعة.
كان العصر فى منتصف القرن الثامن للهجرة، الرابع عشر الميلادى، يموج فى المغرب والأندلس، بالقلاقل والفتن، وبالمؤامرات والانقلابات، وسالت فى ذلك العصر كثير من الدماء على جدار السلطة.. فقتل الابن أباه، والأب ابنه، والأخ أخاه، والصديق صديقه، حتى عَزَّ على من مِثْل الوزير الشاعر الأديب «ابن الخطيب»، ومن مِثْل العالم المؤرخ الأديب «ابن خلدون»، أن يقى نفسه من شرور هذه الفتن رغم ما تبوأه كل منهما من مناصب، وما له من مكانة يعترف بها العدو والصديق.. وقد قُيِّضَ لابن خلدون أن ينجو غير مرة مما حيك له، بيد أن لسان الدين بن الخطيب لم تُقَيَّض له النجاة من المؤامرة الأخيرة التى حيكت ودبرت له.
مأساة «ابن الخطيب»
كان الأديب الشاعر لسان الدين بن الخطيب، أعظم كتاب الأندلس وشعرائها يومئذ، وخدم سلاطين غرناطة بالأندلس، ثم صار وزيراً ليوسف أبى الحجاج بن إسماعيل الأحمر ملك غرناطة، ثم صار وزيراً بعد قلاقل وتقلبات لمحمد بن يوسف الذى آل إليه ملك غرناطة، فلما فقد محمد ابن يوسف عرشه، شاطره ابن الخطيب محنته ونفيه إلى المغرب، ولما استعاد محمد بن يوسف عرشه بعد أحداث، ردَّ ابن الخطيب إلى سابق مراتبه، ولكن كثرت المؤامرات من حول الوزير حتى ضعف نفوذه، وأخذ نجمه فى الأفول، وتغير ابن الأحمر نحوه، فنزح إلى المغرب، ولكن سرعان ما سعى خصومه للنيل منه بعد أن ساءت العلاقة بين بلاط فاس وبلاط غرناطة، واتهموه ظلماً وكذباً وجوراً بالزندقة والكفر، وطلب سلطان الأندلس محمد بن الأحمر، من بلاط فاس بالمغرب، إبعاد الوزير ابن الخطيب وتشريده، فأبى بلاط المغرب، ثم تقلبت الأحوال تبعاً لتغير السياسة، وذهب الوزير أبوعبدالله بن زمرك من الأندلس إلى فاس ليسعى فى تنفيذ «عهد شائن» قطعه سلطان المغرب الجديد على نفسه لابن الأحمر لتحالف بينهما، وكان بلاط غرناطة قد مَهَّد لهذه النكبة بتدبير اتهام الوزير السابق بالكفر والزندقة، وسلوك مذهب الفلاسفة الملحدين فى بعض رسائله.
الإعدام خنقاً وحرقاً!
عقد سلطان المغرب مجلساً على هواهم من رجال الدولة لمواجهة ابن الخطيب الذى أودع السجن بهذه التهم الباطلة، وذهب المفكر الشاعر الأديب والكاتب السياسى العظيم ضحية هذه المؤامرة الشائنة، وأُدين كذباً بتهمة الزندقة، وعذب فى سجنه، وأفتى بعض الفقهاء السفلة بقتله، ودس عليه الوزير سليمان بن داود بعض الأوغاد فقتلوه خنقاً فى سجنه، وأُحرقت جثته تجاه باب المحروق من أبواب فاس التاريخية سنة 776 هـ - 1374م، حيث دفن على مقربة منه!
شاهد على قبر الشهيد!
واليوم صار قبر لسان الدين بن الخطيب مزاراً، وفى المقابل مات منسياً من شمت وفرح يوم الغدر به وقتله، ظاناً فى شماتته أنه لا يموت!
لقد صحت بذلك نبوءة الوزير الشاعر الأديب فى القصيدة التى رثى بها نفسه فى سجنه، والتى قال مما قاله فيها: فمن كان يفرح منكم له: فقل يفرح اليوم من لا يموت! أجل، يفرح اليوم من لا يموت!
فهل الفرحون الشامتون فى قتل المصريين لا يموتون؟!
متى يعى الإرهابيون دروس التاريخ؟!