فيلم «الرسالة» الذى أخرجه المخرج العربى الراحل مصطفى العقاد صدر فى نسختين، إحداهما بالإنجليزية والثانية بالعربية، فى الأولى لعب أنتونى كوين دور «أسد الله» حمزة بن عبدالمطلب، بينما ذهب الدور فى النسخة العربية للعبقرى الراحل عبدالله غيث، وكلاهما أدى الدور ببراعة.
«كوين» عندما كان يتابع التصوير وأداء «غيث»، قال: «عندما تشاهده قبل التصوير لا تتصور أن هذا الرجل الهادئ البسيط سيكون بهذه القوة والحضور أمام الكاميرا، لو كان (غيث) فى أوروبا أو أمريكا لكان له شأن آخر».
تذكرت ما قاله «كوين» عن عبدالله غيث وأنا أتابع رحلة وزير الخارجية المصرى نبيل فهمى إلى الصين وكوريا الجنوبية واليابان، فالرجل وفريق عمله غاية فى البساطة والهدوء حين تجمعنا جلسات المناقشة و«الدردشة» عند انتقالنا من محطة إلى أخرى، لكنه يصبح أكثر قوة وأعمق حضوراً حين يمثل مصر فى لقاءاته بالمسئولين وصناع القرار فى البلدان الثلاثة.
من الجمعة إلى الجمعة أجرى الرجل سبعة لقاءات رسمية فى البلدان الثلاثة وتسعة لقاءات مع ممثلين لمجتمع الأعمال وممثلى الشركات، وعقد ستة لقاءات صحفية وألقى محاضرتين وتناول الغداء والعشاء على مائدة واحدة مع دبلوماسيين وسياسيين ومفكرين من النخب المثقفة والحاكمة فى بكين وسول وطوكيو. وأنا هنا لا يعنينى الرجل بقدر ما تشغلنى نتائج الزيارة وتفاصيلها.
فى مطار القاهرة وقبل المغادرة إلى بكين تناقشنا وقال لى: إن التوجه إلى آسيا جزء من استراتيجية الخارجية المصرية لتنويع العلاقات مع مراكز الثقل فى صناعة القرار الدولى وهى ليست موجهة ضد أى طرف، لكنها مكرسة لخدمة مصالح مصر العليا والدفاع عن أمنها القومى.. مهمة الرجل جد صعبة، لكنه ابن أبيه وزير الخارجية الراحل إسماعيل فهمى الذى «قال لا فى وجه من قالوا نعم» وتنقله سفيراً لبلاده فى أكثر من عاصمة يمنحه قدرة أكبر على التعاطى مع هذا النوع من المهام.
المهم وصلنا إلى بكين واستقبلنا طاقم سفارة مصر هناك برئاسة السفير مجدى عامر والملحق العسكرى حمدى بدين، وفى مساء اليوم التالى كنا فى مقر السفارة الذى افتتح أواخر خمسينات القرن الماضى مستقبلاً أول سفير مصرى بالصين الدبلوماسى متعدد المواهب والمهارات الدكتور حسن رجب.
وفى حفل عشاء ضم سياسيين وممثلين تجاريين صينيين قبلها كان «فهمى» قد أجرى حواراً مع التليفزيون الصينى، وعلى العشاء يظهر وجه الدبلوماسى المخضرم «فهمى» وفريق عمله نائب الوزير لشئون آسيا السفير أحمد إسماعيل والمتحدث باسم الخارجية السفير بدر عبدالعاطى والدبلوماسى الشاب ياسر الشيمى.. سيطرة كاملة على الموقف ومعرفة تامة بطبيعة المهمة.. على العشاء قال لى المبعوث الصينى للشرق الأوسط: إن الصين لا تنسى لمصر أنها كانت الدولة العربية والأفريقية الأولى التى اعترفت بالصين الشعبية ولا تنسى مواقفها لدعم حق الصين فى عضوية مجلس الأمن.
فى الصباح، كنا فى قلب قاعة الشعب الكبرى للقاء نائب الرئيس الصينى..القاعة المشرفة على ميدان السلام السماوى تبث فى النفس شعوراً بالروعة والرهبة والاستقبال الدافئ للوفد المصرى من قِبل المسئولين الصينيين يسهل مهمة الوفد المصرى.. بعدها يتوجه الوفد لمقر الخارجية الصينية للقاء وزير الخارجية، وفى المحصلة اتفاق صينى - مصرى على علاقة استراتيجية متعددة الجوانب، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الأمن إلى الثقافة، ومنحة إضافية بنحو 25 مليون دولار لتنفيذ مشروعات خدمية فى مصر وتوجيه للاستثمارات الصينية بالعمل فى مصر.
«فى ميزان الأرباح والخسائر ربح المصريون، لكنها منفعة متبادلة أيضاً فالعلاقات الدولية وإن لعب فيها الجانب الشخصى دوراً تبقى محكومة بحسابات المصالح»، يقول «فهمى» لى بعد لقاءات الصين، والصين التى حجزت لنفسها بقوة اقتصادها موقعاً متميزاً داخل الأسرة الدولية تسعى للعب دور سياسى أممى يتخذ من العالم العربى وأفريقيا نقطة انطلاق لبلوغ هذا الهدف.
من بكين إلى سول مسافة قصيرة بحسابات الجغرافيا لكنها طويلة بحسابات السياسة، فى كوريا الجنوبية التى خرجت منهكة من الحرب الكورية منتصف خمسينات القرن الماضى لا صوت يعلو فوق صوت المال والأعمال لذا لم يكن غريباً أن يستهل الوفد المصرى زيارته لكوريا الجنوبية بحضور حفل توقيع عقد استثمارى لشركة كاربون المصرى وشركة sk engineering.
يلقى كلمة الافتتاح ممثل الجانب المصرى باسل الباز، نجل السياسى والدبلوماسى الراحل أسامة الباز، وحضور وفد الخارجية المصرية مراسم التوقيع يعطى دفعة سياسية لقاطرة استثمارية تحتاج مصر لجهودها.
وبعد اللقاء الرسمى بوزير الخارجية الكورى الجنوبى يعقد نبيل فهمى لقاءات مع ممثلى الإعلام الكورى قبل أن يلتقى رئيس البرلمان، وفى اليوم التالى يلقى محاضرة فى معهد الدراسات الدبلوماسية بسول تتناول الوضع فى مصر، وهنا يعترف «فهمى» بأن الوضع فى مصر به بعض المنغصات لكنها منغصات لا تعطل قطار التغيير الذى انطلق فى الثلاثين من يونيو ويفتح آفاقاً للاستثمار فى مصر، داعياً الجميع لزيارة بلاده.
نودع سول التى تقف تقريباً فى منتصف المسافة بين بكين وطوكيو سواء بالجغرافيا أو بالسياسة ونولى وجهنا صوب اليابان.
هنا طوكيو أحد الأرقام المهمة جداً فى معادلة الاقتصاد العالمى التى تحتفظ الولايات المتحدة الأمريكية بحضور لا تخطئه العين فى أرجائها.. فى الجهة المقابلة للسفارة الأمريكية كان مقر إقامة الوفد المصرى بأحد فنادق العاصمة اليابانية.
وفى طوكيو، المهمة تزداد صعوبة لكن انضمام طاقم السفارة المصرية باليابان، برئاسة السفير هشام الزميتى لفريق الخارجية واستثمار حصاد فترة عمل نبيل فهمى سفيراً لمصر فى طوكيو يلعبان دوراً مهماً فى تذليل العقبات
فى الصباح، يلتقى «فهمى» وفد الاتحاد اليابانى لوكلاء السفر الذى يطالب باستئناف رحلات «مصر للطيران» إلى طوكيو ويتعهد بالترويج للسياحة فى مصر فى مختلف أرجاء اليابان تعهدٌ تزداد قيمته إذا عرفنا أن السائح اليابانى ينفق فى مصر ما يعادل نحو أربعة أضعاف ما ينفقه السائح الأوروبى. ومن قاعة إلى أخرى يلقى «فهمى» محاضرة أمام المعهد اليابانى للشئون الدولية فتزداد درجة حرارة المواجهة الدبلوماسية مع خبراء يابانيين فى السياسة والاقتصاد وبعدها يلتقى الوزير فى نادى الصحافة الوطنى اليابانى بنخبة الصحافة والإعلام فى اليابان، يسألون عن «30 يونيو» وعن الإخوان والجيش وعن علاقات مصر الدولية وخريطة تحركاتها الإقليمية، فيرد «فهمى» بثبات الخبير بالعقلية اليابانية ويشرح الوضع دون تهوين أو تهويل، ويحصل على ما يمكن وصفه بتأييد خريطة المستقبل فى مصر من قطاع مهم داخل المجتمع اليابانى بعدها يتوجه الجميع لغداء عمل نظمته السفارة المصرية بطوكيو لرؤساء وقيادات الشركات والمؤسسات اليابانية المستثمرة فى مصر، يبدى الجميع رغبة للاستثمار فى السوق المصرية ولا يخفون مخاوفهم مما يعتبرونه توتراً أمنياً بالبلاد بعدها يتوجه وفد الخارجية المصرية للقاء وزير الخارجية اليابانى فتنتقل المخاوف من ساحة رجال المال والأعمال لساحة السياسيين.. يبدى وزير الخارجية اليابانى تفهماً لما يحدث فى مصر ويعبر عن إدراك بلاده للمواجهة السياسية والأمنية بين السلطات المصرية وجماعة الإخوان وأنصارها ويعرب عن دعم اليابان للمسار الذى اختاره المصريون لكنه يربط الدعم اليابانى بالتحرك السريع على مسار تنفيذ «خريطة المستقبل»، ذات المعنى يؤكده رئيس البرلمان ومن بعده رئيس الوزراء اليابانى فى لقائه بـ«فهمى» بعد أن يتسلم رسالة من الرئيس المصرى.
تنتهى اللقاءات الرسمية فى اليابان وقد ربحت مصر دعماً مالياً مباشراً لمستشفى أبوالريش للأطفال ودعماً سياسياً غير مباشر ينطوى على توجيه رسمى للشركات والمستثمرين بأن «اذهبوا لمصر».
فى المساء ينضم الجميع على عشاء عمل بمقر السفارة المصرية بطوكيو هنا وزيرة الدفاع السابقة ونائبة البرلمان اليابانى وسياسيون مخضرمون وكتاب ومفكرون يمثلون أحد أوجه قوة اليابان الناعمة، وعلى العشاء يخرج الوفد المصرى بدعم واضح للموقف المصرى ورغبة فى دفع المؤسسات المانحة لإعادة تدوير ماكينة المنح والدعم لمشروعات اقتصادية واجتماعية فى مصر.
على مؤشر المنافع الاقتصادية تكون محصلة جولة الخارجية المصرية بالبلدان الثلاثة إيجابية، وعلى مستوى المكاسب السياسية يبدو الفريق فى نهاية الجولة وقد حقق تقدماً ملحوظاً نحو بلوغ هدف تنويع العلاقات مع مراكز الثقل الاقتصادى والسياسى فى العالم، لكن كل هذا يبقى مرهوناً بإيقاع حكومى متناغم يضع هذا الحصاد فى سياق وطنى عام يعطى الوضع فى مصر دفعة يحتاجها المصريون، فقصور الأداء داخل أحد القطاعات الحكومية قد يذهب بأى نجاح قد يحققه قطاع آخر، ونجاح وزير الخارجية وفريق عمله فى جولته الآسيوية لا يعنى أنه يربح دائما فكما أن هناك جوانب قوة يبقى على الساحة أيضاً جوانب ضعف تتمثل فى تدنى أداء بعض السفارات المصرية بالخارج وضعف إمكانات بعض الدبلوماسيين، ولهذا حديث آخر.