من يتأمل منا الحياة فى نفسه، يجدها بأنواعها وألوانها نظاماً كاملاً متكاملاً عميقاً شديد العمق صارم القواعد والضوابط، وليست كما يقول البعض صدفة من صدف الكون ولا خبطة عشوائية جزافية غير مقصودة. وصدق الخالق جل شأنه إذ يقول فى محكم تنزيله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 146).
حين تضعف الفطنة، سواء كان هذا الضعف فى الإناث أو الرجال، تميل بصاحبها إلى استسهال الخديعة مع النفس ومع الغير، وتخفى ما تفكر فيه وما تفعله مما يحرص الآدمى على ألّا يعرفه الآخرون لأتفه الدواعى، بل لمجرد الأحلام والأوهام والخيال!
الرغبة والأهواء وكذلك الأطماع والمخاوف وأنواع وألوان اليأس والتدمير هى كلها أحوال تتداول الآن بكثرة لم تشاهَد من قبل لدى البشر أينما وُجدوا.. زادت وكثرت هذه الأحوال نتيجة الاستغراق فى استغلال العقول واستخدام حيلها التى لم يعد لها حدود فى جميع المجالات والمستويات، ولم تجد هذه الحيل ضابطاً لها يوقفها أو يلطفها!
المجازات لها أصل فى طبيعة الفكر والعاطفة.. وهى طعام رئيسى لهما، يكاد يكون نظيراً للحم والخضر والفاكهة والسكريات بالنسبة للجسم.. من هذه المجازات يستخلص العقل والفهم والروح عناصر غذائية مهمة جداً لبقائها ونشاطها ونموها مثلما يستخلص الجسم من طعامه غذاءً لا يمكنه الاستغناء عنه!
الآدمى دائماً ابن عصره هو.. خيّراً كان أو غير خيّر.. عاقلاً أو غير عاقل.. عالماً أو جاهلاً. لا يمتد عقله كثيراً ولا خيره أو علمه إلى العصور التالية لعصره إلّا جزئياً.. تتضاءل جزئية امتداده كلما زاد توالى العصور وزاد معها تأخر عصره وزاد ابتعاد ماضيه.. وهذا الانسحاب أو التراجع من خصائص حياة كل آدمى بغير استثناء.. فيتقادم شيئاً فشيئاً معظم ما كان فى أيامه جديداً فيدركه القدم أو الانطمار.. ويحل ما جد أو استجد مكانه من الأحياء والأجيال الجديدة محل الكثير من سابقه وماضيه.. هذه قسمة أو حظ الآدمى الجديد الحىّ فى تكوين حياته.. وهو لا يستطيع مهما اجتهد فى التمسك بالماضى أن يحول دون ظهور الجديد وتسيد هذا الجديد على ماضيه وماضى آبائه..
نعم تتأثر النشأة بالبيئة، ولكن توجد حالات ليست قليلة كسرت قانون البيئة إيجاباً وسلباً.. هناك عباقرة وأفذاذ خرجوا من بيئة معاكسة، وهناك أيضاً فسول (جمع فسل) وأراذل وبُلداء خرجوا من بيئة ناعمة!!
عين الحدث لا تنفتح لشعاع شمس الأزل، وندرك منها فى كمال وجودنا كما يدرك الخفاش من باهر الشمس. حد العقول الإثبات والتنزيه، ثم التغلب فى التنزيه على موقف العجز هو محل ظهور كمال العز، ولذلك قال الصدَّيق (رضى الله عنه): «سبحان من لم يجعل للخلق سبيلاً إلى معرفته إلّا بالعجز عن معرفته».
غالباً ما تنسى الجماعات لأنها أطول أعماراً من الأفراد.. غالباً ما تنسى معاناتها لشدائدها ومآسيها وما شملته من هلكى وعاجزين ومشردين ضائعين ومن دمار للعامر وتخريب للجليل المأثور.. تنسى ذلك الشقاء الهائل فور إفاقتها وإحساسها العام بتحسن حالها وهى تستر هذا النسيان الطبيعى بإقامة النُّصُب أو الاحتفال بالذكرى أو بتشييد الجديد من المؤسسات على اسم الضحايا الذين لا يكاد يذكر أشخاصهم ذاكر!
يبدو أن الأحياء على أرضنا تختلق قيمها الذاتية.. خاصة «أنا» «الآدمى». فالآدميون من أولهم إلى قابل لا يكفون عن اعتناق أو اختلاق القيم ومحاولة تحسينها والإضافة إليها وتعديلها وتغييرها قبل ترك الدنيا عن طريق النظر والبصر والسمع والذوق والشم واللمس.. وفوق ذلك بالجنس منذ الإحساس بندائه ودفعه إلى فقدان القدرة عليه مع الشوق إليه إلى حد الهوس أحياناً.. كما يختلقون القيم المركبة المصطلح عليها التى تؤهلها تلك الحواس وتساعدها.
يبدو أن العناية بداخل الآدمى وأعماقه هى الحبل الذى يرد إليه المعنى والأمان وسط المخاوف المهولة التى يحفل بها عالم اليوم.. هذا العالم المنطوى على حضارات مختلفة، وعقائد وديانات مختلفة، قد يشتط بعضها فيجافى أو يعادى الآخرين فينضب بالتبعية أثر الدين فى «عمار الداخل».. فهل يمكن لعموم البشر أن يستمدوا من «معالم التقريب» بين الأديان السماوية ما يجمعهم على معتقدات روحية مشتركة، مخلصة ومستقيمة، تستقر فى داخلهم وفى ضمائر سوادهم، تساير علومهم ومعارفهم.. تعطيها وتأخذ منها كل ما تراه واقعاً وحقاً ومعقولاً، وتحظى فى مجملها بترحيب وثقة واحترام يقى الإنسانية من حُمَّى التعصب والغيرة والعداوة!!
ما نسميه مثابرة وإصراراً، هو مزيج من الصبر والموالاة والتفاؤل.. هذا المزيج مختلف النسب والمقادير باختلاف المواضيع وتكوين وظروف كل فرد، واختلاف تكوين وتركيب المجاميع حيال العصور والأجناس.. لذا يجب أن نتوقع ظهور الاختلاف فى أى محاولة للجمع على أمر عام أو خاص، مما يستلزم المثابرة والإصرار وحساب الحسابات مع الاستعداد لمواجهة تباين الميول والطبائع والمصدقات والأفكار.. فهذه وتلك بحاجة إلى رحابة صدر وسعة أفق وأمل.. داخلة فى عناصر ذلك المزيج لا تفارقه قط.. قِلّتها ونقصها يؤذيان أو يعوقان نجاح هذا المزيج، وقد يبطلان مفعوله!
ليس كل من تحلّى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها، بل أهل المعرفة والحكمة هم الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى! أما من قتل قلبه فأحيا الهوى، فإن المعرفة والحكمة لا تتجاوز لسانه!!
خراب القلوب يأتيها من الغفلة وتوهم الأمن، وعمارتها تأتيها من الخشية والذكر.
الشوق إلى الله ولقاؤه، نسيم يهب على القلب يروّح عنه وهج الدنيا!
إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.. فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعنى باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه.
من عَرَف أَلِف، ومن جهل استوحش!
إذا أراد الله أن ينقل العبد من ذل المعصية إلى عز الطاعة آنسه بالوحدة، وأغناه بالقناعة، وتَصبَّره بعيوب نفسه. ومن أُعطى ذلك فقد أُعطى خير الدنيا والآخرة.
الرضا باب الله الأعظم.. فمن أُكرم بالرضا فقد لقى بالترحيب الأوفى، وأُكرم بالتقريب الأعلى.