جاء فى العهد القديم لليهود، بالإصحاح العشرين من سفر التثنية، تقول الشريعة اليهودية لأبنائها المقاتلين: «حين تقرب من مدينة لكى تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير (!!) ويُستعبد لك (!!!). وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف (!!) وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما فى المدينة وكل غنيمتها فتغنمها لنفسك (!!!) وتأكل غنيمة أعدائك (!!!) التى أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التى ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. أما مدن الشعوب التى يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبقى منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً!!!» (سفر التثنية، الإصحاح /20، 11 - 17)، وأقسى من هذا الجزاء جزاء المدن التى ينجم فيها ناجم بالدعوة إلى غير إله إسرائيل، فإنها كما جاء فى الإصحاح الثالث عشر من سفر التثنية: «فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف (!!) وتحرمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف (!!) تجمع كل أمتعتها (!!) إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار (!!).. المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلاًّ إلى الأبد لا تبنى بعده!!»
(سفر التثنية، الإصحاح /13، 16 - 17).
أما القرآن الكريم فلم يبح القوة إلا لمحاربة القوة التى تطغى أو تجور أو تجتاح الديار وتصد عن سبيل الله، فإذا كان لا مندوحة عن الدفاع، ففى إطار غايته لا يتعداها.. حتى إن الإسلام هو أولى الشرائع التى وضعت أسس ما يسمى الآن بقانون الحرب.. الإذن الذى نزل بالدفاع هو فى حدود درء العدوان ولا يبيح الاعتداء. القتال مشروع لضرورة دفع من يقاتل المسلمين دون بغى ولا تجاوز ولا عدوان.. «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة 190)، فالرد على قدر الحاجة، والدفاع مقدور بقدر الاعتداء.. لا يجاوزه، بل والصبر خير للصابرين.. «وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ» (النحل 126). المسلمون مأمورون فى القرآن الكريم بالتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.. «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (المائدة 2).. الحرب محكومة بغايتها وضرورتها والمواجهة فيها مقصورة على المقاتلين.. لا عدوان ولا مساس بشيخ أو امرأة أو طفل أو جريح أو أسير.. الأسير مرعـىٌ ومصون، «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» (الإنسان 8)، والمن سابق على الفداء فى إطلاق الأسير «فَإِمَّا مَناً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا» (محمد4)، والقتال إذا شرع فليس للإيذاء ولا للدمار.. فلا تخريب ولا إتلاف؛ وخلاصة هذه الوصايا أجملها أبوبكر الصديق فقال: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له». القرآن الكريم يدعو المسلم إلى السلم ما دام «الباغى» قد عدل عن بغيه وعدوانه وجنح إلى السلم.. «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً» (النساء90).. «وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (الأنفال 61).. بل إن الجنوح للسلم دعوة مقبولة حتى وإن شابتها مظنة الخديعة: «وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ» (الأنفال62).
القرآن الكريم ينهى عن البغى والعدوان
القرآن المجيد حافل بآيات يستحيل معها أن يكون الجهاد للبغى والعدوان، أو لنشر الدين. فى خطاب قرآنى واضح جلى وصريح موجه للمصطفى عليه السلام: «إِنْ أَنتَ إِلاّ نَذِيرٌ» (فاطر 23).. «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» (سبأ 28).. «إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاغُ» (الشورى 48).. «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ» (الغاشية 21، 2).. «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (يونس99).. «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» (البقرة 256) «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» (النحل 125). أجل حارب الإسلام وحارب المسلمون، ولكنهم لم يحاربوا لنشر عقيدة، ولم يحاربوا للعدوان والتغول على عباد الله، ولم يحاربوا للاستعلاء فى الأرض، ولا لإفساد فيها.. حارب الإسلام مضطراً إما للدفاع ودرء الفتنة، وإما لمواجهة ودرء وضرب الدعوة، وإما لحماية الجوار فى دولة الإسلام.
عداوة يهود المدينة وخيبر وتربصهم للإسلام ورسوله والمسلمين
يتجاهل المتهجمون «المعنى» الذى ورد بالقرآن عن عداوة اليهود للإسلام ورسوله وللمسلمين، وعن مودة النصارى لهم. فما ورد بالآية (82) من سورة المائدة محض «إنباء» أى «إخبار» بما سيجده المسلمون من عداوة اليهود، وبما سيجدونه من مودة النصارى. فكل من شطرى الآية يبدأ بلفظ «لتجدن»، وهذا اللفظ واضح فى دلالته إلى ما سيلقاه الإسلام ورسوله والمسلمون من هؤلاء وأولاء، يقول القرآن الكريم: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ» (المائدة 82). إن عبارتىْ الآية الكريمة لا تحضان ولا تحرضان على عداوة اليهود دون النصارى، وإنما «تنبئ» كل منهما بما سوف يلقاه المسلمون ويجدونه من هؤلاء ومن أولاء.
وقد صدق ما أخبر به القرآن الكريم
أنصف القرآن الكريم كل أهل الكتاب، اليهود والنصارى، ووصفهم بأنهم «أهل الكتاب» ولم يستثنهم من واحة عدله، وميز بالنسبة لبنى إسرائيل بين المستقيمين على منهج الله وأمره، وبين من اتبعوا أهواءهم. فقال سبحانه وتعالى: «لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ».(آل عمران 113 114). كما قال القرآن الكريم فيهم: «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (آل عمران 199). وأوصى سبحانه وتعالى بمجادلة أهل الكتاب جميعاً بالتى هى أحسن ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وقال: «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (النحل 125). وأباح القرآن طعام أهل الكتاب والزواج منهم، فقال تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ « (المائدة 5)، وقد تزوج ذو النورين عثمان بن عفان: «نائلة بنت الفرافصة، وهى نصرانية، وتزوج الصحابى حذيفة بن اليمان «يهودية»، وكذلك تزوج طلحة بن عبيد الله، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، بيهودية من أهل الشام، ومن المعروف أن النبى عليه الصلاة والسلام تزوج صفية بنت حُيى بن أخطب اليهودية، وبنى بمارية القبطية. وأثبتت الشريعة الإسلامية للزوجة الكتابية كافة الحقوق المقررة للزوجة المسلمة.