إن أى رؤية تحليلية تنظر إلى الإرهاب السياسى والعقائدى على أنه عنصر غريب عن المنتظم الحضارى السائد، إنما هى رؤية مبتورة لأنها تجرد هذه الظاهرة من إطارها الثقافى، ولعل أهم عامل يحكم هذا الإطار هو التعليم الذى يصنع عقولا جامدة لا ترى خارج عالمها الأسود سوى الكفر والضلال.
ولذا فإن الإرهابى يرفض الحوار مع الآخر، وفى حالة حدوث حوار لا يمكن أن يكون منتجا؛ لأن الإرهابى متوحد مع أفكاره إلى أقصى مدى دون نقاش ودون مراجعة أو تقويم ذاتى؛ ومن ثم يأتى الحوار معه دوما متأزما، وتكون النتيجة عودة الإرهابى إلى اللغة الوحيدة التى يعرفها: السعى إلى إبادة الآخر فى حالة انهزام الإرهابى، ومحاولة إقصاء المخالفين فى حالة انتصاره؛ فهو «غافل» لا يستطيع أن يرى سوى نفسه فى العالم! ولا يمكن أن يتخلى عن أفكاره التى تلقاها وحفظها بوصفها «كل الحقيقة»، والتى تهدف بالأساس إلى التغلب على العدو من كفار قريش، وتحقيق المقاصد الإلهية قسرا، وانتصار دولة الإيمان على دولة الكفر.. (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).
إن حالة الإرهاب التى نعيشها، والسيولة السياسية والاجتماعية وجو الحوار المتأزم الذى شهدته مصر بين كل الأطياف، يدعونا لإعادة التفكير فى الضلع الثالث من العملية التعليمية، أعنى «طرق التدريس التقليدية» بوصفها مسئولة عن العجز المجتمعى عن الدخول فى حوار منتج وعملية ديمقراطية فعالة. ولذا أجد وجوب التوجه نحو انتهاج طرق تدريس جديدة قائمة على التربية الحوارية Dialogical Pedagogy، التى تهدف إلى تخريج شخصية حرة واعية قادرة على الحوار وغير متعالية أو رافضة له فى الآن نفسه؛ مما ينشأ عنه النمو فى تكوين المواقف والآراء الجديدة دون الخروج عن روح الفريق الواحد أو الدولة الواحدة.
وهذا هو مقصد باولو فريرى من كتابه الشهير «التعليم من أجل الوعى النقدى Education for critical consciousness»؛ حيث التعليم الحوارى فى مقابل التعليم البنكى الذى يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات فى ذهن الطالب مثلما يقوم «أمير الجماعة» بتعبئة عقول أتباعه. فى حين ينبغى أن يكون «التعليم ممارسة للحرية Education: The Practice of Freedom»، وهذا عنوان كتاب آخر لباولو فريرى يؤكد فيه على أن الحوار له أساس كيانى يخلق إمكانية فى الإنسان ليتناقش ويُعيد تشكيل العناصر الحقيقية لهويته، وهكذا يساهم فى تغيير نفسه والعالم.
ونعتقد أن تحقيق هذه الغاية يمكن أن يتم بواسطة طرق التدريس التفاعلية الحوارية، وتوسيع مجالات التفاعل «بين الطالب والطالب» عن طريق تطوير وتشجيع ورش العمل والجمعيات العلمية الطلابية، لأنها تسمح بوسط يوجه فيه النقد الإيجابى المتبادل على مستوى أفقى واحد من الطالب إلى الطالب، وليس على مستوى رأسى فيه تفاوت بين الطالب والأستاذ.
وفى هذا السياق تظهر أهمية تطوير «نظم التدريس» بحيث لا يتم الضغط على الطالب بحفظ المادة العلمية إلى الدرجة التى لا يستطيع معها أن يفكر فيها على مسافة كافية منها. وهنا تبرز أهمية طريقة «المشروع» التى قال بها جون ديوى، كما تبرز أهمية تكوين فرق بحثية أو نقاشية صغيرة العدد نسبيا بحيث يعمل كل فريق فى مشروعات بحثية محددة تحت إشراف المعلم من ذوى النشاط البحثى المتميز والمستمر لتحقيق تواصل أكثر عمقا بين الطلاب والمعلمين بشكل أكثر عمقا على المستوى المعرفى وإكساب الطلاب المهارات البحثية وفن الحوار المولد للحقيقة.
وفن الحوار المولد للحقيقة، دون التلقى السلبى من المعلم، اتجاه عالمى اتسع استجابة للانفجار المعرفى. وكان موجودا فى الأكاديميات اليونانية قبل الميلاد التى صنعت العقل العلمى والفلسفى، كما كان موجودا فى مدرسة «أهل الرأى» عند أبى حنيفة النعمان وغيره من الفقهاء العظماء، بل كان الحوار المنتج سنة نبوية أصيلة فى مدرسة محمد (صلى الله عليه وسلم) الذى كان يفتح الحوار فى شئون الدنيا مع أصحابه الكرام، والذى تخرجت فى مدرسته قامات تملك نواصى الرأى والاستنباط (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، مثل عمر وأبى بكر وعثمان وعلى وخالد وعمرو وأبى ذر وابن عوف وأسامة وخديجة وأسماء وعائشة وأم سلمة.. والقائمة طويلة.
من جهة أخرى، لا شك أن التعليم يحتاج إلى جهود مضاعفة لتجديد «المحتوى التعليمى» ليتناسب مع متطلبات إعادة بناء مصر ثقافيا وسياسيا، واحتياجات المجتمع وسوق العمل. ولعلنا ندرك أنه قد آن الأوان لإعادة صياغة الكتاب المدرسى لتحقيق ما يعرف بـ«الكتاب المعلم»، وهو الكتاب الذى يستطيع أن يخوض فيه الطالب بمفرده وبمساعدة محدودة من المدرس، مع العلم إن هذا لن يتم بدون تحجيم مافيا صناعة وطباعة الكتاب المدرسى ذات الصلة الوثيقة بأصحاب المصالح من صناع الكتب الخارجية التى تعرف أن استمرارها مرتبط بقصور الكتاب المدرسى.
والارتقاء بـالمحتوى التعليمى يتواكب مع تشجيع «روح الاكتشاف» لدفع الطلاب إلى مستويات جديدة من التعلم القائم على الفكر التحليلى والإبداع فى حل المشكلات، وتنمية ملكة الابتكار، والخروج من حدود المقرر إلى سعة البحث العلمى لحل المشكلات الواقعية، وهذه هى أهم أداة فى الحياة لمعرفة الحقائق ولتربية الفرد ولتكوين المجتمع الديمقراطى، كما يقول جون ديوى فى كتابه «الديمقراطية والتربية Democracy and Education»، والذى ينظر فيه إلى التربية باعتبارها ضرورة من ضرورات الحياة.
ولا ينفصل عن هذا ضرورة إعادة تطوير أساليب التقويم وأسئلة الامتحانات لتختبر المهارات وطرق التفكير، ومخرجات التعليم على أساس «النتائج» بدلا من التركيز فقط على عملية التعليم والحفظ والتلقين التى تعد الأساس الخصب لتكوين عقول مغلقة لا تفكر يستطيع أن يوظفها بسهولة صانعو الإرهاب الذين يلعبون لعبة الموت فقط، الموت من أجل حياة بعينها يفرضونها على الجميع!