فى الأسبوع الماضى، شاركت فى حلقة نقاشية عن الإعلام ودوره فى عملية التنوير، وهى الحلقة التى شهدت انقساماً بين المتحدثين بخصوص طبيعة المحتوى الذى يجب أن نقدمه للجمهور من خلال المؤسسات الإعلامية المصرية.
وبرز فى هذا الصدد رأيان متضادان، أولهما أفاد بضرورة أن يتركز المحتوى المقدم للجمهور المصرى عبر وسائل الإعلام على جوانب الترفيه والتسلية، وثانيهما (وقد تبناه كاتب هذه السطور) أكد أهمية أن يتنوع المحتوى المقدم للمصريين، بحيث يغطى المجالات ذات الطبيعة الجادة بشكل متوازن مع مواد الترفيه.
لا يعد هذا السؤال طارئاً على المجال المصرى أو العربى، بل تم طرحه سابقاً ونوقش على أكثر من مستوى، رغم أن الدراسات العلمية الموثوقة سبق أن بلورت رأياً واضحاً فى هذا الصدد، وهو رأى محل اتفاق النظم الإعلامية الكبرى فى العالم.
لقد حاولت بعض المؤسسات الإقليمية الكبرى فى ثمانينات القرن الفائت ومطلع تسعيناته أن تلتف على هذه الاستخلاصات الإعلامية بأن تتجاهل حاجة الجمهور إلى متابعة القضايا الجادة عبر المحتوى الإخبارى المصنوع باحترافية، وأن تطور منصات تقدم محتوى يركز فقط على التسلية والترفيه.
نحن نتذكر ظهور عدد من تلك المنصات، التى عملت آنذاك تحت شعار «إبقاء الجمهور فى المنزل»، بزعم أن إغراق الجمهور بمواد تسلية وترفيه منتجة بتقنية عالية وعوامل إبهار سيجعله ينصرف عن متابعة الشأن العام وسيقلل اهتمامه بالأخبار السياسية، مما يعزز الاستقرار، ويمنح السلطات الفرص المناسبة للعمل فى هدوء ومن دون ضغط، لـ«تحقيق التنمية التى لا يمكن أن تحدث فى ظل القلاقل والتدافع والتوتر الناشئ عن التباين إزاء السياسات العامة».
لكن ما حدث أن قناة «الجزيرة» انطلقت فى منتصف التسعينات المنصرمة، وفوجئ الجميع بقدرتها الفائقة على جذب الاهتمام، وصولاً إلى إرساء أجندة أولويات إقليمية تخدم تصوراً بذاته، وهو الأمر الذى أعاد الاعتبار لفكرة المحتوى الجاد.
لا يجب أبداً التقليل من أهمية المواد الترفيهية ووظيفة التسلية كوظيفة مهمة من وظائف الإعلام، إذ كثيراً ما تصنع الوقائع غير التقليدية الأخبار، سواء كانت هذه الوقائع مهمة أو تافهة. فهناك مكان للتسلية والترفيه مثلما يوجد مكان للموضوعات الجادة. فمعظم الصحفيين يعتقدون أن من واجبهم جذب الجمهور، وإثارة اهتمامه، بل وتسليته.
وغالباً ما تستمع إلى صحفى يقول: «هذه قصة جيدة»، رغم أن ما بها من تفصيلات قد لا يكون ذا أهمية ترتبط بحياة الجمهور، ولكن بسبب ما تتضمنه من تفصيلات قد تكون مأساوية أو مشوقة. ولتحقيق غاية الجذب قد يبحث الصحفيون عن عناصر عادة يستخدمها كُتاب الروايات والقصص السينمائية. أى إنهم يبحثون عن موضوعات قد تتسم بالدرامية بما تحتويه من توتر، أو صراعات، أو تشويق، أو حب وكراهية. أو تفيض بالمشاعر، مثل الحزن، أو الفرح، أو التحولات النفسية.
أو تجسد نزاعات، سواء بين أشخاص، أو أحزاب، أو جماعات، أو دول، أو تقدم موضوعات عن شخصيات آسرة (كاريزمية)، مثل القادة، والأبطال، والأشرار، والأقوياء، والأغنياء، ومشاهير (الرياضة أو الفن).
والواقع أنه مهما اختلفنا فى تقديم تعريفات، جامعة ومانعة، للأخبار، فلن نختلف على أن الأخبار لا يتم إنتاجها فى فراغ افتراضى. بل إنها ترتبط بالجمهور سواء كان قرّاء الصحف أو مستمعى الإذاعة أو مشاهدى التليفزيون أو متصفحى الإنترنت. هذا الجمهور يتكون من أناس من لحم ودم لهم تطلعات وتوقعات تتعلق بما يتلقون.
وبالطبع لكل وسيلة إعلامية جمهورها الخاص، فالبعض قد يستهدف الشباب، بما يعنيه ذلك من أجندة اهتمامات ثقافية خاصة. والبعض الآخر يستهدف جمهوراً أكثر نضجاً، بما يعنيه ذلك من اهتمامات أوسع نطاقاً تشمل كل ما يدور حوله من تطورات.
فقارئ جريدة يومية جادة يتوقع أن يجد تفصيلات كافية عن موضوعات داخلية ودولية ذات أهمية. بينما يتوقع قارئ جريدة منوعات أن يجد مواد مسلية بالإضافة إلى قليل من الأخبار ولو باختصار.
إذن من المهم أن تلم بأكبر قدر ممكن من المعلومات عن جمهورك المستهدف. والصحفى أو رئيس التحرير أو مدير المؤسسة الإعلامية الناجح هو من يفكر بصورة دائمة فى الجمهور المستهدف ويسأل نفسه: من الجمهور المتلقى؟ ما احتياجاته؟ ماذا يريد أن يعرف؟ وما الأسئلة التى يرغب فى معرفة إجاباتها؟
إشباع هذه الأسئلة بحثاً قد يضمن الوفاء باحتياجات الجمهور، سواء كانت وسيلة الإعلام جريدة أو إذاعة أو تليفزيوناً أو كانت تقدم خدماتها عبر الإنترنت.
وعلينا أن نتذكر دوماً أن الصحفى فى المجتمعات الراشدة يعمل مباشرة من أجل الجمهور، إذ يقدم له المعلومات عما يدور حوله، ويقوم بالنيابة عنه بتوجيه الأسئلة للفاعلين فى الأخبار والقصص.
ولكى ينجح القائمون على صناعة الإعلام فى الدور المنوط بهم فى اختيار الموضوعات التى يتم تقديمها للجمهور عليهم أن يبذلوا جهداً كافياً فى فهم طبيعة جمهورهم وتعيين احتياجاته ورصد أولوياته.
لا يجب أن نسير وراء رغبات الجمهور بداعى أنه «عايز كده»، ولكن علينا أن نصوغ أولوياته ونلبيها.
للجمهور رغبات، وله أيضاً احتياجات، لكن الأولويات هى مزيج معتدل بين رغباته واحتياجاته.
ولتسهيل الأمر، يمكن أن نضرب مثلاً: يريد شخص ما أن يشرب المياه الغازية (رغبة)، لأنه يشعر بالعطش (احتياج)، وقد يكون من المفيد له أن يشرب «عصيراً طبيعياً»، وهو أمر يمكن أن يكون أولوية، لأنه يحقق جزءاً من رغبته، ويسد احتياجه فى آن واحد.
ومع ملاحظة أن العصير الطبيعى يقوم بالمهمة، وفى الوقت ذاته لا يستسلم لرغبة قد تدفع صاحبها إلى ممارسة خاطئة (قد تؤدى المياه الغازية إلى أمراض وسمنة)، فإن المحتوى الإعلامى الجيد يؤدى الدور نفسه بالنسبة إلى الجمهور.
المحتوى الإعلامى الجيد لا يستسلم لرغبات الجمهور فيتحول إلى ممارسة حادة خاطئة أو يغرق فى التسلية والترفيه بداعى الحصول على رضا الجمهور، متجاهلاً احتياجاته. إذا تم تجاهل احتياجات الجمهور بداعى تلبية رغباته عبر تقديم مواد التسلية دون تزويده بما يحتاجه من معالجات خبرية للشئون الجارية الداخلية والخارجية، سنفقد اهتمامه وولاءه لوسائلنا، وسنسلمه إلى روافد إعلامية أخرى، وقد يكون بعضها منحرفاً أو معادياً.