حين دخلت مصر معركة تحديد هويتها وانتمائها، خاض المثقفون معركة فكرية على 3 محاور، راوحت ما بين الانتماء العربى أو الفرعونى أو البحر المتوسط (الأوروبى)، ثم دخلت الهوية الإسلامية على الخط، لكن أبداً لم يفرض الانتماء الأفريقى نفسه على خط مواجهات صراع تحديد الهوية المصرية.
على مدار حقب وعهود طويلة، فرضت أفريقيا نفسها على الحاكم باعتبارها العمق الاستراتيجى، والباب الخلفى للدولة المصرية، ومنذ أقدم العصور وجدت مصر فى العمق الأفريقى، لكنها أبداً لم تتجاوز مفهوم دائرة المصالح العليا الأمنية والاقتصادية.
ثورة يوليو فرضت واقعاً مختلفاً، لم تسع له، وإنما فرض هذا الواقع نفسه، حين تحولت الثورة المصرية بقيادة ناصر إلى أيقونة وعنصر إلهام للشعوب المحتلة فى القارة السمراء، فدارت حركات التحرر الوطنى حول القاهرة قبلة ثورات الاستقلال الوطنى، وبدأت أفريقيا تقترب رويداً من فكر وعقل المثقفين المصريين، لكنها لم تقترب أبداً من دائرة الانتماء التاريخى والحضارى والثقافى.
ما بين الستينات والعشرية الثانية من القرن الحالى، شهد الوجود الأفريقى تراجعاً عن العقل المصرى، سواء على المستوى الرسمى أو الفكرى، ومثل هذا التراجع انكساراً قوياً للوجود المصرى فى أفريقيا، وتراجعت مسألة الأهمية الاستراتيجية للقارة السمراء فى القرار المصرى، وهى ربما المرة الأولى التى يغيب فيها محور العمق الأفريقى عن مفهوم الأمن القومى المصرى، وهو ما رصده الراحل العظيم د. بطرس غالى فى حوار صحفى أجريته معه قرب نهاية العشرية الأولى، حين قال إن «أى سياسى مصرى لا ينظر إلى أفريقيا ويضعها فى مكانها المناسب داخل جوانب وروافد الاستراتيجية المصرية لن ينجح ولن يحقق أهدافه»، منذ منتصف العشرية الثانية، ومع تولى السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى ولايته الرئاسية الأولى، دخلت القارة الأفريقية مساحة مختلفة تماماً فى دائرة القرار السياسى، وهى مساحة ظلت تتسع حتى استعادت مكانتها، فى دوائر الأمن القومى المصرى، وتجاوزت المفهوم التقليدى فى العمق المائى لتتسع إلى مفهوم المصالح التنموية الأوسع فى كل أرجاء القارة.
مصر فى ستينات القرن الماضى كانت قبلة حركات التحرر والاستقلال الوطنى من الاستعمار، ومصر فى العشرية الثانية من القرن الحالى أصبحت قبلة التنمية والتحرر الاقتصادى الوطنى، وباستعادة أفريقيا لمكانتها فى الرؤية الاستراتيجية للدولة المصرية عاد إلى العقل المصرى رافد مهم غاب طويلاً، وترك غيابه آثاراً سلبية عميقة تسعى دولة السيسى إلى محوها.
لم يعد مفهوم الأمن القومى يقف عند حدود دول حوض النيل إنما امتد ليشمل كل دول القارة من أقصى جنوبها إلى حدودها الشرقية والغربية فى آن.