إن الاطلاع على علم السنن الإلهية ومتابعة أبحاثه التى تتسلسل إلى علم النفس وعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ وغيرها، من أوجب الواجبات على من يتعامل مع كتاب الله، ولهذا يقول الإمام «محمد عبده»: «لابد للناظر فى هذا الكتاب من النظر فى أحوال البشر فى أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم، من قوة وضعف، وعز وذل، والعلم بأحوال العالم علوية وسفلية، وأنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا، وما معنى تلك الوحدة التى كانوا عليها، وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم»، فعلم السنن الإلهية علم قرآنى ضابط لأصول الاجتماع البشرى.
ومعنى قوله: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ»، يعنى كان الناس أمَّة مجتمعة ومتوحدة ومتعاونة فاختلفوا وتنازعوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، لمنع هذا الاختلاف والتنازع والصدام، وإبداله بالتعاون والتكامل، والعود بالناس إلى الأمة الواحدة المتعاونة المتكاملة.
والسنن الإلهية ينبغى أن تكون هى المتحكمة فى نشاط المسلم، بل نشاط البشرية، وعليها يضع المسلم برامجه وأهدافه واختياراته، وإذا ما غابت هذه الإدراكات عن ذهنه فإنه يتخبط، وفى تخبطه يفقد المعيار السليم لقراراته. والسنن الإلهية ربما تتجاوز الخمسين سُنة، منها: سنة التكامل، فقد خلق الله الأكوان مختلفة اختلاف تنوع لا تضاد، كاختلاف الليل والنهار، وبالتالى فإن فهم سنة التكامل يخلق عند المسلم نفسية متزنة تنبذ الصراع، وتجعل علاقته بالآخرين قائمة على التكامل والتعاون، وهذه السنة نجحت التيارات المتطرفة فى محوها من عقول بعض الناس.
ومنها: سنة التدافع، المأخوذة من قوله تعالى: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ»، فالتدافع سنة إلهية، وهى غير محصورة فى الاشتباكات الحربية، وإنما عبر بالتدافع ليشمل كل أنواع التعاون والاختلاف والتنافس وكل وسيلة تحقق الاستقرار والأمان، فالله لم يخلق الإنسان منعزلاً عن محيطه، بل هو فى حاجة للناس، والناس فى حاجة إليه، ومن هنا يعمل كل فريق ليصل إلى هدفه، ويتولد من هذه السنة عدة قوانين تضبط النشاط والحراك بين أفراد المجتمع.
ومنها: سنة التمكين، والغلبة «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا»، وسنة التمكين ليست بالمعنى المغلوط الذى نشرته التيارات المنحرفة التى عرضت تصوراً وهمياً لهذه الفكرة، المتمثلة عندهم فى محاولة الاستحواذ على المواقع المختلفة فى الدولة من أجل نشر فكرهم وسيطرة أفراد تنظيمهم، هذا انحراف وشطط، إنما التمكين الذى هو من السنن الإلهية هو تصرف إلهى بحت، وليس تصرفاً بشرياً يطلبه الناس، وحقيقته الأخذ بأسباب الحضارة، وتقديم أجوبة تفصيلية عن أسئلة العصر ومشكلاته فى النواحى الدبلوماسية، والإدارية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفلسفية، والمعرفية، وأن يكون ذلك منطلقاً من النموذج المعرفى الإسلامى ومقاصده وإجماعاته وسننه الإلهية وآدابه وفنونه، وذلك عن طريق الانفتاح على الآخر، وتبادل الاستفادات، والقيام بتوليد العلوم الحديثة والمناهج والتنظيرات، وتحويلها إلى برامج عمل ومناهج تطبيق تؤول إلى مؤسسات ونظم إدارة، هنا فقط يحدث التمكين الذى هو من السنن الكونية الإلهية.
ومن السنن الإلهية أيضاً: سنة التداول فى الغنى والفقر، والحكم والقيادة، والقوة والضعف، وفائدة هذه السنة، ألا يظلم الحاكم، وألا يبخل الغنى، وألا يتعالى القوى.. لأن الله يبدل ويغير فى خلقه، وإلى تلك السنة أشار القرآن فى قوله: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ»، وقوله: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ».