فى مذكراته التى حملت عنوان «حكاية العربى» قال الحاج محمود العربى إنه حينما فكر فى إنشاء مصنعه فى مدينة بنها فى نهاية الثمانينات، سارع لشراء ثلاثة أفدنة بملايين ووضع فيها أساس البناء بملايين أخرى، ثم سافر لليابان للتفاوض مع شركة توشيبا على بدء التصنيع فى مصر بنسبة قابلة للزيادة، وهو يظن أن ما فعله سيبهرهم فيسارعون للتوقيع معه، إلا أنه فوجئ برفضهم وتعجبهم من إهداره للمال بما فعل! ثم أخذوه فى جولة لمشاهدة مصنعهم ليكتشف أنه مصنع صغير لتجميع الإنتاج، بينما هناك مئات الورش فى المنازل التى يتخصص كل منها فى إنتاج صناعة مغذية لمنتجات توشيبا.
تذكرت ما قرأته وأنا أتابع التصريحات التليفزيونية لمستشار وزير التجارة والصناعة حسام فريد، التى قال فيها إن عدد المنتجات المغذية للصناعات التى يتم استيرادها فى مصر يقدر بنحو 693 منتجاً بقيمة 33 مليار دولار، أى إننا نستورد ما يمكن أن يتحول لباب رزق للكثير من الشباب وصغار المصنعين ويوفر لنا عملة صعبة، وهو ما أكد عليه مستشار الوزير بالإعلان عن سعى الوزارة لإيجاد بديل لها محلياً عبر تعميق التصنيع المحلى، الذى يدعمه وفقاً لتصريحاته أكثر من جهة بالتعاون مع جهاز تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة فى أعمال التمويل والتحديث.
نعم نحتاج بشدة إلى هذه الخطوة التى ستسرع من خطوات التنمية فى مصر، وبخاصة فى مجال الصناعة، من خلال دراسة واعية وكسر للروتين وكذلك إرادة من الشباب الساعى لبناء مستقبله، فلن نتمكن من القضاء على الفقر إلا من خلال توسيع قاعدة المصنعين والمستثمرين الصغار بالتوازى مع مسار الدولة فى المشروعات الصغيرة.
ربما يتماشى هذا الحديث مع تصريحات دكتور محمود محيى الدين، النائب الأول لرئيس البنك الدولى، مؤخراً فى القمة المصرفية العربية الدولية، التى أوضح من خلالها أن الاقتصادات العربية تحتاج كحد أدنى إلى 230 مليار دولار سنوياً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بينما يصل العجز المالى فى بعض الدول إلى 100 مليار دولار سنوياً، إلا أنه أضاف أنه ورغم ذلك فالفرصة سانحة لمواجهة تلك التحديات إذا ما اعتمدنا على الكتلة الشبابية فى المنطقة العربية التى تقدر بنحو 60% من عدد السكان، وهو ما ينطبق على مصر التى تبلغ فيها نسبة الشباب نحو 64.2%، وأشار فى تصريحاته لضرورة توسيع وإعادة توجيه الاستثمار، من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة فى مجالات البنية الأساسية، وتطوير رأس المال البشرى والمهارات.
ولذا فإن ما نحتاجه -بعد تحديد الصناعات المغذية التى نستوردها وحجمها من قبل وزارة الصناعة- هو ربط عالم المصنعين الكبار بصغار المستثمرين ليحدد كل مصنع وكل مستثمر ما يحتاج لإنتاجه ومواصفاته بما يتناسب مع المنتج. وهو ما يؤدى إلى زيادة التشغيل وتقليل نسب البطالة وخلق قاعدة من صغار المستثمرين الشباب ومن قبلها توفير 33 مليار دولار تذهب لاستيراد تلك الصناعات المغذية.
لقد كان من أكثر الأمور التى أدهشتنى وأحزنتنى أثناء زيارتى لبورسعيد مؤخراً، ذلك الحديث الذى دار بينى وبين الحاج سيد صاحب مصنع للرنجة فى بورسعيد، يصدر إنتاجه لعدد من الدول العربية والغربية بمواصفات دولية، حين قال إنه يستورد علب الحفظ المعدنية لتعبئة التونة من إسبانيا، لأنه لم يجد فى مصر علباً بالمواصفات العالمية التى يتطلبها التصدير لتلك الدول! وكيف أنه يتمنى أن يجد مصنعاً مصرياً فى هذا المجال ليوفر عليه ما يدفعه من دولارات.
ربما هى حكايات متشابكة وتصريحات متعددة إلا أن كلها تصب فى خانة واحدة وهى التنسيق بين كافة الجهات وكسر دائرة البيروقراطية المزرية لتوسعة قاعدة المشروعات الصغيرة بقوة.