ليست هذه دعوة للحرب، وإنما تقرير لواقع وفهم لضرورة يفرضها العقل والمنطق وحقائق الحياة، التى تفرز الشر كما تفرز الخير، وتشجع البعض على العدوان والخروج على مقتضيات الحق والعدل والإنصاف. لم ينشغل أحد بموجة الخير والإنصاف، فهما لا يحتاجان إلى المواجهة، وإنما تغدو المواجهة ضرورة لازمة لمقاومة الشر والبغى والعدوان، وهذه المواجهة تقتضى منى ومنك ومن كل من يتعرض للتغول على حقوقه، ألاَّ يترك الآخر يعتقد أو يظن أنك صادع خامد خانع معدوم القدرة والحيلة، لا رغبة ولا قبل لك بالمناضلة حين تجب للدفاع عن حقك المهضوم أو المسلوب.. وأنت لن تستطيع أن تقنع الآخر بهذه القدرة بمحض الكلام والطنطنة، وإنما يجب أن يكون فى واقعك وعملك ورصيدك وعزمك وإرادتك، ما يحمّل رسالتك بأنك قادر على أن تختار وتمارس وبكفاءة خيار الحرب إنْ فُرض عليك للدفاع عن حقوقك!
ما الذى جرى للأنظمة العربية؟!
دهمنى ولا يزال هذا الإحساس وأنا أراقب الأنظمة العربية بغير استثناء، تركت الآخرين يعتقدون اعتقاداً راسخاً لا يتزحزح بأننا فقدنا القدرة ومعها النخوة، وأننا قد بتنا نتسول ما يُلقى إلينا إن أُلْقى من فتات!.. الفتات هو غنيمة الشحاذين والمتسولين، لا يدفعه إن دفعه! إلاّ الكرم والأريحية ورغبات التفضل والمنّ التى لم يعد لها محل ولا موضع ولا وجود فى دنيا السياسة!
السياسة لا قلب لها
السياسة لا قلب لها، وإدارة الصراعات وقت السلم أو التهادن لا تقل، بل هى ربما تكون أعرض، من إدارة الصراع زمن الحرب.. إدارة الصراع، وتحريك آلياته فى اتجاه حقك ومصلحتك هى ناتج أو لا ناتج! إمكانياتك وجديتك وقدرتك على ممارسة الصراع بكل أدواته وأشكاله انتهاءً بالحرب إذا لم يكن منها بدّ!!
فأنت لا تستطيع أن تدير هذا الصراع، إدارة حقيقية منتجـة وفاعلة، ما لم تدرك أدواتك وتقبض عليها، فأولها أن ولاءك يجب أن يكون لقاعدتك.. لا يبالى بالرضا أو بعدم الرضا هناك، وأن إمكانياتك معلقة بالقاعدة التى تسندك، وبالأدوات التى تملكها.. هذه الأدوات لا تترك شيئاً فى موازين القوى إلاّ يجب أن تحرص عليه وتجنيه.. تجنى قاعدة اقتصادية وعلمية متينة، ووضعاً سياسياً حاضراً ومؤثراً وفاعلاً، وقوة عسكرية قادرة، وعلاقات دولية مؤثرة ومؤازرة من واقع مصالح تفرضها على الآخرين بأكثر مما تتمناه أنت. هذه المصالح المتبادلة تُنشأ وتُهيأ لها أسبابها إن لم تكن موجودة، وتُنمى وتُزاد وتُفعل إن كانت قائمة.. فالدول وسياستها وراء مصالحها كالأفراد.. لن يناضل أحد من أجلك إلاّ إذا كانت له مصلحة واضحة فى هذه المناضلة، فما الذى يدفع المتواطئ مع عدوك ضدك ما الذى يدفعه إلى إنصافك وأنت تيسر له وتعطيه كل ما يريد ويبتغى، لن يبالى بك أحد إذا كنت لا تبالى بنفسك وحقك، وتباشره وتنتصر له بنفسك.. على حد الحكمة القائلة: «ما حك جلدك مثل ظفرك، فتول أنت جميع أمرك»!
المشهد الراهن
أين نحن الآن فيما يجرى فى المشهد الراهن، لم تقدم ولن تقدم إسرائيل والحال كذلك ما يشف عن أى رغبة فى السلام، فهى تنعم الآن بكل ما تريده وزيادة بلا حرب ولا سلام، فهى ناعمة فى الوطن الذى سلبته، وبمن تهلكه أو تطفشه من بنيه، وبالقضمات التى أضافتها إليها فى سنة 1967، بما فى ذلك القدس العربية، وهضبة الجولان التى بدا أنها لم تعد سورية بعد أن أطلقت إسرائيل مشروع قانون يحظر الاستفتاء على ردها.. وهى الآمرة الناهية فى الأراضى المضمومة إلى جوار الوطن السليب، المتحكمة فى الإقامة وفى المعابر والمنافذ، المتمكنة من الحصار الذى فرضته بالجدار العازل الذى لم تبال بحكم محكمة العدل الدولية بالتوقف عن إتمامه وإزالة ما تم منه، وهى هى التى أعلنت بدعم أمريكى يهودية القدس واتخاذها عاصمة أبدية لإسرائيل، وانتقلت حكومتها إليها ودون أن يعترض عليها أو يراجعها أحد، بل أقرتها الولايات المتحدة الأمريكية رغم أنف العالم كله، ونقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس العربية، وماذا يبقى بعد أن أصدر الرئيس الأمريكى باتفاق إسرائيلى / أمريكى، فرماناً بضم الجولان السورية إلى إسرائيل، برغم أنف القانون الدولى والأعراف الدولية، ورغم اعتراض دول العالم على هذا العمل المغرق فى البطلان وهدم كل شرعية فى العالم.
وماذا يبقى وهى ترفض الدخول فى اتفاقية حظر الأسلحة النووية؛ ناعمة بترسانتها المدمرة التى تركتها الولايات المتحدة بلا أى تعليق، ويممت شطر إيران تحظر عليها ما أباحته وتبيحه لإسرائيل التى لا يراجعها أحد!!
ما هى إذن الدوافع والمرغبات التى يمكن أن تدفع إسرائيل إلى السلام؟! أليس السلام يقوض ويوقف ما تجريه الآن من استيلاء متتالٍ على الأراضى العربية، وما تشنه من غارات وإبادة وإهلاك وتهجير وتجريف، وما تقيمه من مستوطنات يجرى العمل فيها على قدم وساق، فضلاً عما يجرى من تهويد للقدس وما حولها فى صورة بلغت حد إجبار أصحاب الدور على هدمها بأيديهم وإلاَّ تعرضوا للعقاب؟!
إذن، فلماذا تقبل إسرائيل بالسلام؟! إن ما تتظاهر به مجرد مراوغة من أجل إعطاء الانطباع بقبولها للسلام، ولإلهاء العالم والعرب حتى تستوى وتكتمل المؤامرة وتضيع فلسطين وشعبها إلى الأبد!! ولا بأس بعد هذا من مزيد من التغوّل اقتصادياً فى الوطن العربى وتسخير العرب لخدمة أغراضها وأهدافها!
ماذا بقى بعد ذلك؟!.. إن العرب متناحرون، وهكذا فعلت وتفعل الفصائل الفلسطينية، والصراع على أشده بين فتح وحماس، والكل منشغل بالتفاهات عن إدارة صراع حقيقى فاعل يصد التغوّل الأمريكى، ويشعر أمريكا أنها سوف تدفع ما تفعله لإسرائيل من مصالحها الخاصة ومصالح شعبها، ويصد إسرائيل عما تفعله، وبأنها ستدفع ثمن ما تتصور أنها تسعى لتأبيده، ويقنع العالم والمتحكمين فى مساره الآن بأن دوام هذا الحال من المحال!
وهل يفهم العرب أن أحداً لا يستطيع أن ينال السلام، ما لم يكن قادراً على الحرب!