لا صوت يعلو فوق تنسيق الثانوية العامة، الذى تنتهى المرحلة الثانية منه مساء اليوم الأحد، وتظهر نتيجته منتصف هذا الأسبوع، حيث يتقدم 528 ألف طالب وطالبة من أبنائنا الحاصلين على الثانوية العامة للتنسيق بمراحله الثلاث، انتهى 140 ألفاً منهم من حسم مقاعدهم واختياراتهم خلال المرحلة الأولى للتنسيق التى تم الإعلان عن نتائجها بالفعل، بينما يجرى تسجيل رغبات نحو 230 ألف طالب وطالبة، فيما ينتظر 158 ألفاً لتسجيل رغباتهم فى المرحلة الثالثة التى لم تبدأ بعد.
لا شك أن حلم «كلية القمة» ما زال حياً فى قلوب الكثيرين من أولياء الأمور والطلبة أنفسهم، باعتبار أن هذا الحلم بات حلماً تقليدياً تحلم به كل الأجيال، ويلحق به من استطاع الحصول على أعلى من 98% للشعبة العلمية، و95% تقريباً للشعبة الأدبية، حيث أصبحت فرص هؤلاء الطلاب جيدة للغاية فى الالتحاق بأى من كليات «الطب والصيدلة والهندسة» بالنسبة لطلاب الشعبة العلمية، وكليات «الاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام والألسن» بالنسبة لطلاب الشعبة الأدبية.
ولكن فى الحقيقة فإن المعطيات والمتغيرات المحيطة بنا اختلفت بشكل كامل، خلال الفترة الحالية، عما كانت عليه فى الماضى، ولم تعد كليات الطب والصيدلة والإعلام والألسن هى الكليات الأكثر تأهيلاً لـ«أغنياء المستقبل» الذين يستطيعون امتهان عدد من الأعمال الأكثر توليداً للدخل، والأكثر ارتفاعاً فى مؤشر الأمان الوظيفى.
منذ عام تقريباً، وفقاً للعديد من التقارير العالمية، انطلقت ما تسمى «الثورة الصناعية الرابعة»، أو «ثورة التكنولوجيا»، كما يلقبها البعض، وهذه الثورة تقوم على مفاهيم جديدة، لم يسبق للبشرية التكيف معها، وهى مفاهيم الأتمتة والذكاء الاصطناعى، والبرمجة، والواقع الافتراضى، وغيرها من المفاهيم التى ستحدد شكل مستقبل التوظيف فى العالم، وستحدد كذلك فرص كل تخصص فى الحصول على وظائف جيدة من عدمه!
هذه الثورة التكنولوجية أكدت تقارير المنظمات الدولية أنها ستغير بشكل كلى من سوق العمل خلال العقد المقبل، وبالتحديد قبل أن يحل عام 2030. وأشارت تقارير صادرة عن منظمة العمل الدولية إلى أن ثلثى الوظائف الحالية ستتلاشى مع ثورة التكنولوجيا وستحل محلها وظائف جديدة تتطلب تخصصات مختلفة ومؤهلات أكثر تخصصاً وتركيزاً على مجالات بعينها.
وخلال هذه الفترة سيخرج أبناؤنا الطلاب الذين يسجلون رغباتهم حالياً إلى سوق العمل، فمن الممكن أن يواجهوا سوقاً تقليدية للتوظيف، ذات طلب عالٍ على الطبيب والصيدلى والمهندس والمحاسب والمترجم، وفى هذه الحالة للأسف سنكون قد تخلفنا فى مصر عن ركب الثورة التكنولوجية أو الثورة الصناعية الرابعة، كما تخلفنا عن الثورات الثلاث التى سبقتها!
ومن الممكن أن يخرجوا لسوق العمل فيجدونها مختلفة بشكل كلى، لا مكان فيها لشخص لا يجيد ربط التكنولوجيا بالتخصص، ويرتفع فيه الطلب على المبرمجين، ومهندسى الآلة، ومصممى الألعاب والتطبيقات الإلكترونية، ومتخصصى برامج الأتمتة، وهنا سيضطر هؤلاء الطلاب إلى إجراء عملية تحويل كلية فى أهدافهم العملية، وسيسعون إلى اكتساب مهارات جديدة، حتى يستطيع كل منهم الحصول على فرصة مناسبة، رغم تخرجهم مما يطلق عليه «كليات القمة».
الآن، الوضع اختلف بشكل كامل، فالثورة التكنولوجية الحالية ستقسم الجيل الحالى والأجيال المقبلة إلى 3 أقسام، الأول، مبتكر وهم أصحاب الأعمال، خاصة تلك الأعمال التى تتسم بفرص عالية فى النمو والربح.
أما القسم الثانى، فهو الماهر، الذى استطاع أن يختار لنفسه تخصصاً يتواكب مع متطلبات سوق العمل الجديدة، ومجالاتها المختلفة بشكل كامل عن السابق، وهؤلاء سيعتمد عليهم القسم الأول بشكل كبير فى تسيير الأعمال، وسيتمتعون بفرص عالية فى تحقيق دخل مناسب ومتطور بشكل كبير.
أما القسم الثالث، فهو التقليدى، ويشمل هذا القسم العمالة التقليدية التى تؤدى أعمالاً بسيطة أو يدوية أو أعمالاً تقليدية لا يمكن الاستغناء عنها مثل بعض فئات الموظفين الحكوميين والإداريين فى القطاع الخاص، وهؤلاء سيتمتعون بمستويات أقل فى الأجور.
فى تقديرى أن كل من أراد لأبنائه أن يلتحقوا بالقسمين الأول والثانى، عليه توجيههم بشكل مباشر لدراسة المجالات التكنولوجية الجديدة، مثل كليات الذكاء الاصطناعى، وكليات التعليم الصناعى، وكليات الحاسبات والمعلومات، وكليات إدارة الأعمال، وتأهيلهم لأن يكونوا مبتكرين ومستثمرين فى المستقبل يحددون الفرص المتوافرة ويعملون بشكل جاد على اقتناصها واستغلالها وبناء شركات وأعمال تتسم بسرعة النمو والمستقبل الواعد، أو تأهيلهم لأن يكونوا فى الصفوف الأولى التى سيعتمد عليها هؤلاء المبتكرون والمستثمرون.
أما مجالات الآداب والتربية، والحقوق، والمحاسبة، والعلوم السياسية والخدمة الاجتماعية، فهناك تشبع كبير بعرض العمالة فيها، ومجالات الصيدلة والطب والألسن والإعلام، ستخرج فى المستقبل أجيالاً يتبعون بشكل مباشر مبرمجى الآلة، والمبتكرين!