ترجل الفارس عن صهوة جواده، ثم رحل، لكنه بقى حياً فى قلوب الفلسطينيين، ترك حصاد سبعة وأربعين عاماً من النضال والمقاومة حين كانت حركة فتح مجرد فكرة فى أذهان ستة أشخاص هم ياسر عرفات وخليل الوزير وعادل عبدالكريم وعبدالله الدنان ويوسف عميرة وتوفيق شديد، وكان لقاؤهم فى أواخر عام 1957 بمثابة اللقاء التأسيسى الأول لحركة فتح. ترجَّل الفارس مطمئناً أن هناك مَن سيُكمل المسيرة ويرفع راية النصر، لكن الراية تدحرجت وهوت إلى الدرك الأسفل من الانهيار، رحل القائد والرمز ياسر عرفات ورحلت معه كل قيم المقاومة والتماسك الوطنى، وتراجعت قضية العرب «القضية الفلسطينية» من القلب إلى الأقدام! اليوم وفى ذكرى رحيل «أبوعمار» تحضرنى كلمات الرئيس الفرنسى الأسبق «جاك شيراك» حين قال: «بعد موت ياسر عرفات فإن المنطقة لن تعود كما كانت، فالموت الذى غيَّب عرفات، غيَّر كل شىء، وستشهد المنطقة تغيرات كبرى لم تعهدها من قبل إطلاقاً، لقد تغيَّر الشرق الأوسط إلى الأبد».
صدق الرئيس الفرنسى جاك شيراك وتحققت رؤيته الثاقبة، فبموت ياسر عرفات تيتَّمت القضية الفلسطينية، وتباعدت خيوطها، «أبوعمار» الذى كتب عنه أعداؤه شهادة حق لم يستطيعوا تزييفها، لأنه قائد ذو كاريزما متفردة، يحبه الكبير وتربَّى على حبه الصغير يحترمه معارضوه قبل مؤيديه، يخشاه القريب والبعيد، سار على عهد النضال حاملاً غصن الزيتون، حين ألقى خطابه الشهير أمام الأمم المتحدة فى نيويورك عام 1974 باسم الشعب الفلسطينى، إنما كان يعبِّر عن استراتيجيته النضالية، ورؤيته السياسية فدشن بداية الاعتراف بالفلسطينيين حين أطلق جملته الشهيرة: «جئتكم حاملاً بندقية الثائر بيد وغصن زيتون باليد الأخرى، فلا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدى».
الذكرى الخامسة عشرة على رحيل القائد والرمز ياسر عرفات «أبوعمار» تاريخ حافل بالإنجازات والمواقف الصعبة والحكايات الإنسانية، لم يهتز ولم يلِن! كانت دوماً تسبقه كلماته الأثيرة فى كل المواقف المستعصية والظروف السياسية الحرجة التى مرت بها القضية الفلسطينية ولا تزال «يا جبل ما يهزك ريح». لكن موته هز جبل الوحدة والاصطفاف الوطنى اللذين كانا وقود المقاومة ووجه القضية الفلسطينية المشرق، تفرقت السبل بالفرقاء وتبدلت الأحوال، وأصبح الشعب الفلسطينى رهينة الوصاية السياسية والفصائلية الخاضعة للأهواء الأيديولوجية والحزبية، فضعفت القضية وتبددت قوتها، وسهُل اختراق ديمومتها، لذا لم يكن مستغرباً أن يُدلى رئيس الوزراء الإسرائيلى المتطرف بنيامين نتنياهو قبل يومين بتصريحات استفزازية تعود على تكرارها والتى قال فيها: «إن طريقة تحقيق السلام مع الأنظمة الديكتاتورية هى أولاً وقبل كل شىء بواسطة الردع، سينهار السلام بدون رادع، لذا فإن المفتاح الأول لتسوية سلام مع الدول العربية هو الردع»، وأضاف نتنياهو: «أضفنا طبقات من التعاون الأمنى، الذى تعزز جداً جداً، أكثر بكثير مما يمكننى قوله هنا، وكذلك قنوات تجارية وتعاون استخباراتى»، وأردف قائلاً: يتم الحفاظ على السلام عملياً، بفضل الردع المستمر، حتى لو لم يذكر ذلك بوضوح».
كشف «نتنياهو» عن وجهه القبيح بأنه رجل حرب ولم يكن يوماً رجل سلام، كما يدَّعى فى كل المحافل الدولية، اعترف نتنياهو براديكاليته حين اعتبر الردع هو مفتاح السلام، لذلك توقفت المفاوضات وفشلت أوسلو وفشلت عملية السلام، وعادت القضية الفلسطينية إلى نقطة الصفر، الفارق هو غياب «مفجِّر الثورة» الذى كان يعرف كيف يدير أدوات المعركة بذكاء، ويواجه خصومه بدهاء وصلابة، تحدى ظروف الحصار الذى فُرض عليه فى المقاطعة مقر إقامته فى رام الله لسنوات، حتى ملَّ من صموده الأعداء فقرروا التخلص منه، وبرحيله رحلت قوة الإيمان بالنصر والطمأنينة والأمل فى غدٍ أفضل التى كان يبثها فى شعبه، وبعد أن كان يجمع الفلسطينيين هدف واحد هو دحر الاحتلال وتحرير فلسطين، تعددت الأهداف وتمزقت القضية.
رحم الله الرئيس ياسر عرفات أيقونة النضال، موحِّد الفلسطينيين وقاهر الأعداء، عاش بطلاً ومات بطلاً.