فى 9 يونيو الجارى، كتب صحفى مصرى بارع وشهير على «تويتر» هذا السؤال: «هل قرأت كتاباً ممنوعاً؟ وما حكايته معك؟»، وقد حرصت على قراءة تعليقات متابعيه وردودهم على السؤال، وهى ردود لم تخرج فى مجملها عن الكتب التالية: «أولاد حارتنا»، و«1984»، و«فى الشعر الجاهلى»، و«البوابة السوداء»، و«خريف الغضب»، وبعض أعمال نجيب سرور وأحمد مطر، أما الكتاب الذى تكرر عنوانه أكثر المرات ضمن الإجابات فلم يكن سوى «معالم فى الطريق» للأستاذ سيد قطب.
كان هذا دافعاً لتذكر «معالم فى الطريق»، والمرة الأولى التى قرأته فيها، خصوصاً أننى لم أشعر يوماً بأنه كان ممنوعاً، ولاحقاً عرفت أن الرئيس عبدالناصر نفسه سمح بطباعته، ولم يحدث أبداً على مدى ثلاثة عقود أن أخفقت فى الوصول إليه والرجوع إلى أفكاره، إذ كان متاحاً كل الوقت، وممدوحاً فى بعض الأحيان، حتى إن كثيرين من نقّاد الأستاذ قطب والمختلفين مع فكر «الإخوان» أظهروا حرصاً واضحاً على الحديث عنه باحترام، ومناقشة أفكاره بلياقة، بل ومحاولة «الإقرار» أحياناً بقدرة كاتبه على تكثيف أفكاره، وصياغتها ببراعة، واستخدامه مهارات الإقناع بحذق، إلى حد وصف الكتاب بأنه «تأسيسى» كأعمال كينز وآدم سميث وهيجل، ومكثف كما «المانفستو»، وملهم كما الأعمال التراثية الفكرية الخالدة.
فإذا كنت من هؤلاء الذين يخضعون لتأثير «انحياز النزاهة» Fairness Bise، أو الراغبين فى إظهار الانفتاح والتسامح والقدرة على الاختلاف فكرياً بقواعد وتقاليد راقية، فلن يكون هناك مفر من إظهار الاحترام، رغم الاختلاف، مع ما أتى به هذا الكتاب.
وكما أشرت فى مقالى الأسبوع الفائت فى «الوطن»، المعنون بـ«هكذا حصلت على (معالم فى الطريق)»، فقد حصلت على الكتاب لأول مرة من زميل «إخوانى» فى كلية الإعلام بجامعة القاهرة، إثر مناظرة بيننا كأحد متطلبات التدريب العملى فى أولى سنوات التخصص، وهى المناظرة التى استهدفت الإجابة عن السؤال: «كيف تخرج مصر من أزمتها؟»، وأى طريق عليها أن تسلكه لكى تتبوأ مكانتها المستحقة؟
كان زميلى «الإخوانى» واثقاً من طرحه فى تلك المناظرة، وحاسماً كأنه ليس فى حاجة إلى إيضاح، وموقناً كأن ما يطرحه «توجيه إلهي»، ومشفقاً علىّ، وعلى ما أمثله ومن هم مثلى، من طرح يراه «فاسداً وجاهلاً ويقف على حدود الكفر».
ولِمَ لا؟ تلك إرهاصات التسعينات، والحجاب ينتشر ويزدهر فى أعماق البلد، و«الدعاة» يصدحون فى المساجد والزوايا بأفكار الحاكمية والخلافة، والقادمون من الدول النفطية يطلقون اللحى ويقصرون الأثواب ويعتقدون فى هدايا الطاعة والعبادة والامتثال لتأويلات الزعماء الدينيين، وفرج فودة يُقتل فى 1992، والدكتور مزروعة والشيخ الغزالى يعتبرانه «مرتداً»، ونجيب محفوظ يتعرض للطعن فى رقبته فى 1995، والعنف المسلح يندلع فى الصعيد، ويضرب باغتيالات نوعية فى القاهرة، تطال الدكتور رفعت المحجوب فى 1990.
فى تلك الأثناء، كان الاتحاد السوفييتى السابق يتفكك وينهار، والأفكار الاشتراكية تتعرض لهجوم مزدوج، بعضه يأتى من الغرب الراغب فى تصفية عدوه الأساسى، وبعضه الآخر يأتى من الشرق الذى انصاعت مصالحه للمصالح الغربية عند نقطة استخدام الدين فى الصراع.
ظهر هذا واضحاً فى الحرب الأفغانية، حين أنضج التحالف النفعى فكرة «محاربة الإلحاد»، واندفع آلاف من الشبان المسلمين والعرب إلى أراضى أفغانستان، ليحاربوا «العدو الكافر»، بموازاة تعبير بعض شيوخنا عن الاعتقاد بأن هزيمتنا فى 1967 ليست سوى شر ظاهر ينطوى على خير مضمر، لأنها حدثت ونحن نوالى المعسكر «الملحد»، ولا نوالى الغرب «المؤمن».
قُتل الرئيس السادات قبل ذلك بعقد كامل تقريباً، ورغم فداحة الحدث، فإن الظروف التى شكلت سياقه لم تكن بكل هذا الوضوح والتمكن الذى ظهر مع مطلع التسعينات، وقد ظهر هذا فى الجامعات، وفى وسائل الإعلام، والمجال العام، وفى جبال الصعيد وحقول الذرة، وفى شوارع القاهرة التى عرفت الاغتيالات والهجمات المسلحة.
تلك أجواء أسس لها الأستاذ سيد قطب فى كتابه «معالم فى الطريق»، ألم يكتب: «فى المنهج الإسلامى وحده يتحرر الناس جميعاً من عبادة بعضهم البعض»، و«بعث يتبعه تسلم قيادة العالم»، و«تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية بسبب إفلاسها فى عالم القيم»، و«لا بد من قيادة جديدة للبشرية تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التى وصلت إليها البشرية بقيم جديدة وبمنهج أصيل»، و«لا تمتلك الأمة الإسلامية وليس مطلوباً منها أن تقدم تفوقاً خارقاً فى الإبداع المادى يحنى لها الرقاب ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية، فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها فى هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر خلال عدة قرون على الأقل التفوق المادى عليها»، و«لا بد من المؤهل الذى تفتقده هذه الحضارة.. لا بد من مؤهل آخر لقيادة البشرية غير الإبداع المادى، ولن يكون هذا المؤهل سوى العقيدة والمنهج الذى يسمح للبشرية بأن تحتفظ بنتائج العبقرية المادية تحت إشراف تصور آخر يلبى حاجة الفطرة كما يلبيها الإبداع المادى».
من تلك السطور، فهمت لماذا أيقن زميلى «الإخوانى»، الذى أهدانى «معالم فى الطريق»، أن حل مشكلاتنا ينحصر فى «الفتح» أو «الغزو». أى استخدام الوسائل القتالية، لتحقيق الثراء والسيادة، لأن «الغرب الكافر المادى الساقط» استطاع أن ينجز «تفوقاً مادياً خارقاً فى الإبداع»، ونحن لن نستطيع أن نجاريه فى هذا، والحل كما يقول زميلى «الإخوانى»، نقلاً عما فهمه من أفكار «قطب»، يكمن فى البعث لتسلم القيادة، وسيأتى هذا عبر «الفتح - الجهاد»، أى استخدام القوة، طالما أننا لا نملك آليات لإحراز التقدم المادى الخارق الذى يوطد لنا قيادة العالم.
تلك هى «معالم الطريق» التى قدمها الأستاذ سيد قطب.. ألا نجتهد فى التفكير فى اجتراح وسائل التنمية لإحراز التقدم المادى المطلوب، لجسر الفجوة بيننا وبين الغرب، وأن نركز عملنا فى البعث لتسلم القيادة.. وبالطبع فقد وصل التوجيه لابن لادن، والظواهرى، والبغدادى، وظهرت أدبيات «الفريضة الغائبة» و«إدارة التوحش»، وتحرك قاتلو فودة وطاعنو محفوظ، وهؤلاء لم يوفروا جهداً لبلوغ الغاية.
مر أكثر من خمسة عقود على صدور «المعالم»، والغرب لم يسقط، بينما مقتفو «المعالم» يقتلوننا عبثاً وتابعية.. بلا بعث ولا قيادة.