نُتهم أحياناً بالغرور عندما نقول بفخر: «إن الفراعنة هم أول من عرف....»، ولكنها بالفعل الحقيقة التى يعرفها العالم، فعندما نقف وننظر للخلف نجد وراءنا حضارة حقيقية لا نراها فقط فى براعة البناء والنحت والتحنيط وإنما فى منظومة حضارية كاملة أسسها المصرى القديم. وليس من قبيل المصادفة أن الفراعنة كانوا رواداً فى وضع أساسيات النظم المالية للدولة، فهم التنويريون الذين قدموا للعالم الحياة بكل تعقيداتها ونظمها على طبق من فضة.
وبما أننا ما زلنا نتحدث عن حكايات الضرائب على مر العصور، فسنحكى كيف وضع المصريون القدماء نظاماً اقتصادياً قائماً على كل ما يتمتع به الاقتصاد الحديث من مقومات بما فيها النظام الضريبى، وكيف كانوا رواداً فى توفير المناخ المناسب للعمل والاستثمار.
عرف المصرى القديم قيمة تشجيع الإنتاج وأهمية عدم التعسف مع المستثمرين، والدليل على ذلك ما تركه من نقوش على المعابد يوجه فيها الحاكم رجال الدولة قائلاً: «إذا تعسفت مع الفلاحين وتعاملت معهم بقسوة سوف يفلسون ويتركون الأرض، أما إذا حافظت عليهم فسوف يبقون وتظل الزراعة»، هذه الجملة تلخص فكرة التيسير على المستثمر والحفاظ على الإنتاج.
وقد كشفت النقوش الفرعونية أن مينا «نارمر» موحد القطرين، كان أول من وضع نظاماً للضرائب، ولأن نجاح أى نظام ضريبى كما يتطلب تسهيل إجراءات العمل والإنتاج فإنه يحتاج أيضاً إلى الحزم والدقة فى تنفيذ القوانين، من هنا كانت عقوبات التهرب من الضريبة قاسية ورادعة باعتبار أن الضريبة حق يراد به تحقيق منفعة عامة، بل إنها كانت جزءاً من عقيدة المصرى القديم باعتبار أن الملك هو ابن الإله والضريبة هى حصة مفروضة يجب دفعها كواجب دينى.
لذلك كان الكاتب المصرى يجلس على ضفة النهر لحساب ضريبة الحصاد وتدوينها فى سجلات مكتوبة بحسب سندات الملكية، بينما يمسك حراسه بعصى جريد النخل يعاقبون بها من يتهرب من واجبه فى سداد الضرائب، كانت العقوبات الجسدية مقبولة فى ذلك العصر.
وعرف الفراعنة نظام المكوس وهو شكل أوّلى من أشكال الجمارك فى العصور القديمة فكانت الضرائب الجمركية تُفرض على البضائع التى تمر بالبلاد على أساس عُشر قيمة البضائع الداخلة للبلاد.
وعرف المصريون القدماء ما يسمى بنظام الضريبة الحُكمية Presumptive Tax أى الضريبة القائمة على أسلوب مبسط فى حساب الدخل الخاضع للضريبة بناء على معايير محددة، وهو النظام الذى ما زال مستخدماً حتى الآن.
كيف هذا؟ تعالوا لنرى الإجابة.
بدأت فكرة الضرائب الحكمية مع تحول المجتمع من الصيد والقنص إلى الزراعة، وتطلب هذا التحول حماية الأراضى الزراعية ببناء سور حولها لتحقيق الأمن من هجمات الحيوانات المفترسة والقبائل البدائية، وبالتدريج تحولت تلك الأراضى إلى ما يشبه القرية فكان لا بد من اختيار شخص يساعده مجموعة من المواطنين لحماية القرية على أن يقدم لهم أهل القرية خدمات مقابل الحماية تتمثل فى الطعام والملابس وغيرها، وهنا تظهر بوضوح فكرة الضرائب باعتبارها تضحية الفرد من أجل الجماعة التى تحدثنا عنها فى مقال سابق.
كانت قيمة ما يقدمه أهل القرية من خدمات لهذه المجموعة تقسم بينهم بالتساوى، ولكن لم تسر الأمور بهذا الشكل طويلاً، إذ اتسعت رقعة الأراضى المزروعة وبدأت حالة من التفاوت فى حجم الملكية، فليس للجميع نفس المساحات ونفس المحاصيل، فكان من المنطقى أن تختلف قيمة ما يدفعه كل منهم لمن يحمى القرية، فبدأت تُحسب القيمة بناء على مساحة الأرض وطبيعة المحاصيل المزروعة، وهنا ظهرت فكرة الضريبة الحُكمية وظهرت فكرة القياس والعرض والطول والهندسة عموماً.
وهى الفكرة التى استخدمها المصرى القديم فى حساب الضرائب وأصبح بعدها مقياس النيل هو الوسيلة الأفضل لقياس مدى جودة موسم الزراعة من خلال فيضان النيل، وبالتالى تحديد الضريبة الحكمية بشكل دقيق. وكان من عاداتهم إذا جاء الفيضان ناقصاً أن يخفض من قيمة الضريبة مقداراً يعادل نقص الفيضان، ويؤيد ذلك ما وُجد فى بعض النقوش لأحد أمراء الأقاليم فى عهد الملك سنوسرت عندما جاء الفيضان منخفضاً فكتب ما معناه: «لم أفرض عليهم ضرائب جديدة ليكونوا دائماً فى فرح وشكر».
لا تقوم الحضارات على عنصر واحد من عناصر التنمية، فالنظم الاقتصادية لا بد أن تعتمد فى تعاملاتها على التنوع فى مصادر الدخل بين الإنتاج والتصنيع والابتكار، وهذا ما فعله المصرى القديم، فكانت الحضارة قائمة على الزراعة والصناعة والبناء، ويتم تمويلها من الضرائب.
تشير هذه الحكاية إلى أن النظام الضريبى لا بد أن يتحرى العدالة فى التشريع والحزم فى التنفيذ، فلا عدالة بدون تطبيق شامل على الجميع، وهذا ما فعله المصرى القديم الذى وضع نظاماً صارماً وتم تطبيقه على الجميع وبالتالى أصبح للدولة مصدر هام من مصادر الدخل ينفق منه على البناء وتأسيس الدولة وصُنع حضارة حية حتى اليوم.
وللحكايات بقية..