أتيح لي خلال الثمانينيات من القرن الماضي أن أدير مشروعا بحثيا تطبيقيا على المستوى القومي لدراسة أوضاع شركات القطاع العام الصناعية في مصر، وتقديم مقترحات لرفع كفاءتها وإنتاجيتها وربحيتها. وقد شملت عينة المشروع 50 شركة صناعية تنتمي لقطاعات مختلفة.
وشارك في المشروع ما يقرب من عشرين استاذا وباحثا وممارسا من أربع جامعات وعدد من الشركات العامة. وتمثلت أهمية المشروع في تلقيه دعما ماليا من مؤسسة حكومية كندية IDRC وكذلك دعما مؤسسيا من وزارة الصناعة ووزير شئون مجلس الوزراء في ذلك الوقت.
وقدمت تقارير الدراسات التي شملها المشروع في 2200 صفحة تناولت تحليل مؤشرات الربحية والأوضاع المالية والإنتاجية الحقيقية للشركات والسياسات والأنظمة التي تستخدمها، وتضمنت تشخيصا لعوامل النجاح والربحية وضعف الأداء. وقدمت التقارير مجموعة متكاملة من المقترحات التي تستهدف النهوض بأداء وربحية هذا القطاع الهام.
ولعل أهم ما خلص إليه المشروع أن هياكل ونظم الإدارة، ومعايير الأداء والمساءلة والرقابة، وكذلك نظم الحوافز تحتاج جميعها إلى تغيير شامل وجذري.
وإذا صيغت مضامين هذه الإصلاحات المقترحة بالمصطلحات المعاصرة فيمكن تلخيصها في إعادة بناء نظم إدارة وحوكمة هذه الشركات. فقد كانت (ولا زالت) شركات القطاع العام تعاني من نظم إدارة وحوكمة ضعيفة تسمح بتدني الأداء وتؤدي إلى خسائر مزمنة في كثير من الحالات.
قدمت هذه التقارير عند الانتهاء من المشروع ومعها ملخص تنفيذي بالمقترحات المنبثقة من دراسات المشروع إلى رئاسة الدولة (من خلال الدكتور أسامة الباز)، ومجلس الوزراء (من خلال الدكتور عاطف عبيد)، ووزارة الصناعة مباشرة (وزير الصناعة وقتها كان المهندس محمد عبد الوهاب).
وقدم تقرير وافي نهائي باللغة الإنجليزية إلى الجهة الممولة (خلافا للتقارير والمتابعة الدورية خلال أعمال المشروع). حصلت إذا الجهات المصرية العليا على مقترحات نظامية متكاملة تمخضت عن دراسات استغرقت حوالي أربع سنوات من العمل البحثي التطبيقي المتعمق والدؤوب. وكان مصير هذه التقارير والمقترحات التطويرية أن وضعت على الأرفف.
وكان يمكن لو تم أخذها بجدية وتبعها إصلاحات استراتيجية كما أوصت به تقارير المشروع، أن يتحسن أداء الشركات، ولا يكون هناك احتياج إلى برنامج خصخصة شركات القطاع العام (خاصة الصناعية) في مراحل لاحقة. المفارقة في الأمر هنا أن الجهة الكندية الممولة للمشروع إعتبرته مشروعا نموذجيا مرجعيا Benchmark، حيث طلبت مني (كمدير للمشروع) أكثر من مرة أن أقدم نبذة عنه وعن نتائجه في مؤتمراتها واجتماعاتها الإقليمية.
ومن الواضح أن خلل الحوكمة لم يكن متعلقا بأوضاع شركات القطاع العام فحسب، بل في هياكل الدولة والحكومة التي يفترض أن تكون ممثلة لملكية المجتمع وممثلة لمصالحه في الإدارة الجيدة لشركات القطاع العام. ويقودنا هذا إلى جوانب ومصادر الخلل في حوكمة شركات القطاع العام.
مفهوم حوكمة الشركات
برز وتطور مفهوم ومصطلح حوكمة الشركات Corporate Governance خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وأصبح جزءا من أدبيات علوم الاقتصاد والاستراتيجيات والتمويل والإدارة وتطبيقاتها العملية. ويقصد بالمفهوم نظم وهياكل السلطة ونظم ومعايير وآليات المساءلة التي تقابلها في الشركات. وتختل وتضعف الحوكمة إذا اختلت هذه النظم والهياكل والمعايير وآليات المساءلة، وإذا ضعف التقابل والتوازن بين جانبي السلطة والمساءلة والرقابة. وأحد أهم المفاهيم أو النظريات التطبيقية في هذا الخصوص هو نظرية الوكالة.
وبمقتضى هذه النظرية فإن ملاك الشركة يمثلون الأصيل Principal أي صاحب السلطة الأصلية في إدارة الشركة. ولما كان هذا الطرف الأصلي ليس له الدراية أو الجهد أو الوقت أو ليس شخصا واحدا أو حفنة قليلة من الأشخاص مثل حالة ملكيات الشركات المساهمة التي تتوزع الملكية فيها بين أفراد أو أشخاص عديدين، فإن الملاك (الطرف الأصيل) يستعينون بمديرين محترفين لإدارة الشركة، يعملون بمثابة وكيل Agent عن المالك الأصلي او الأصيل، ويعملون لصالح هذا الأصيل. ولما كان هذا الوكيل يمكن أن يستخدم السلطات المخولة إليه لتحقيق مصالحه هو، فإن الأصيل يضع من الضوابط والقواعد الرقابية التي تحد من هذه الإمكانية، وتدفع الوكيل إلى الاستخدام الجيد للسلطات المخولة لصالح الطرف المالك (الأصيل).
ومن هنا جاءت تسمية هذه النظرية (نظرية الوكالة). وتتمثل الحوكمة التي تحدد العلاقة بين الأصيل والوكيل في هياكل السلطة ونطاقها ومعاييرها، والمعلومات المتاحة للأصيل عن الممارسات والنتائج التي تتمخض عنها والمعايير والآليات التي يستخدمها (الأصيل) للمتابعة والرقابة والمساءلة عما يقوم به الوكيل. وفي النظم المعاصرة التي تأخذ بها الدول لتحقيق حوكمة جيدة للشركات، هناك ضوابط ومعايير وقواعد وآليات للإفصاح وتوفير المعلومات والتقارير الدورية والقوائم المالية والمراجعة الداخلية والمراجعة الخارجية من قبل متخصصين معتمدين يقومون بالمراجعة والتقييم للنظم والممارسات والتحقق من سلامة ومصداقية المعلومات والتقارير التي تعدها الإدارة وكذلك فيما يتعلق بدور الملاك في القرارات الاستراتيجية من خلال جمعياتهم العمومية العادية وغير العادية.
فجوات الحوكمة في الشركات العامة
وإذا طبق مفهوم الحوكمة على الشركات العامة سنجد أن هناك حلقة مفرغة وفجوة كبرى في تحديد المالك أو الأصيل والآليات المعبرة عن مصالح هذا الأصيل. فالأصيل في هذه الحالة ليس مؤسسات الدولة، وإنما المجتمع أو الشعب بأكمله.
وما الدولة هنا إلا مؤسسة مركبة تنوب عن المجتمع أو هي وكيلة عنه في رعاية وإدارة مصالحه، فهي ليست المجتمع بأي حال. الأصيل المتمثل في المجتمع في حالة المشروعات والشركات العامة، يعتبر المالك الأصلي للثروات والأصول التي تحوزها الدولة وغير مملوكة ملكية خاصة. ويعتبر مصطلح ملكية الدولة تعبيرا ومصطلحا مضللا هنا لأنه يطمس ويخفي حقيقة وضعية الدولة أو أي مؤسسة فيها (كمؤسسة وكيلة عن المجتمع ويفترض أن تكون مسئولة أمامه) عندما يتعلق الأمر بثروات وأصول المجتمع.
ويقوم هذا المفهوم التصحيحي على أنه لا يمكن افتراض أن يعبر الوكيل هنا بالضرورة عن مصالح الأصيل (وفق نظرية الوكالة)، لأن افتراض هذا يجافي طبيعة الأشياء ويغفل إمكانية تعارض المصالح بين الطرفين. وإفتراض كهذا يدمج الكيانين (مؤسسات الدولة والمجتمع)، ويسقط إمكانية تضارب مصالحهما. ولنا في خبرات مصر برهانا على هذا بفيما يتعلق بالأداء المترهل الناجم عن الإهمال والفساد وسوء الإدارة وصورية الرقابة والمساءلة التي تصيب شركات القطاع العام نتاجا لهذا المفهوم المغلوط.
هذا ناهيك عن أن هذا الدمج والخلط ينجم عنه أنظمة وممارسات وأداء تنتقل عدواها في الفساد والبيروقراطية من أجهزة الدولة والحكومة إلى الشركات العامة، التي يفترض أن تدار بنظم وأهداف وممارسات أقرب لتلك السائدة في القطاع الخاص.
ويمكن القول أن كل هياكل ومؤسسات الدولة ومراكز صنع القرار فيها تعمل كوكيل عن المجتمع. ولا يمكن افتراض أن هذه الهياكل والمراكز ومن يشغلوها تمثل مصالح المجتمع أو هي الأصيل المعبر عن هذه المصالح.
هذا لأن دوافع الأصيل وحرصه ومصالحه المرتبطة بما وضعه من استثمارات وسعيه لمباشرة صلاحياته في الأطر المؤسسية للشركات (الجمعية العمومية في الشركات الخاصة مثلا)، والآثار والنتائج التي يتحملها شخصيا بفعل نتائج الأعمال للشركة، لا يمكن أن يتوافر زخمها وقوتها وعوامل الدفع الكامنة فيها فيمن يقومون بأدوار داخل مؤسسات الدولة، تجاه مشروعات القطاع العام. وقد احتوت تجربة مصر وكذلك تجارب الدول في حوكمة القطاع العام، اجتهادات تحاول سد ثغرة الحوكمة المشار إليها. فكان مثلا نظام مشاركة العمال في ملكية الشركات وفي مجالس الإدارة، ونظام الرقابة الشعبية على المشروعات العامة، ونظام الخصخصة الجزئية لرأس المال.
لاقت هذه التجارب والمحاولات نجاحات محدودة. لكن التجارب الأنجح (في النظم الرأسمالية) كانت في الدول التي تحولت وتطورت فيها نظم الدولة والحكومة أخذا بالأهداف والنتائج كأساس لنظم الإدارة والرقابة، وتعززت فيها الديموقراطية والشفافية والمساءلة الجماهيرية لمؤسسات الدولة والحكومة وقويت نظم النزاهة وآليات مكافحة الفساد في هذه المؤسسات.
وطبعا مع نمو تيار الخصخصة عالميا في الثمانينيات والتسعينيات وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تم تقليص قطاعات المشروعات العامة عالميا، بدعوى عدم أهلية الدولة لملكية وإدارة مشروعات اقتصادية إستنادا إلى قواعد عمل الاقتصاد الرأسمالي. وفي طيات هذا التوجه، كان ضغط المستثمرين من القطاع الخاص على الدولة للإستحواذ على الشركات العامة، واعتراف الدولة بعجزها عن التصدي بحلول مبدعة لمعالجة فجوات الحوكمة وإشكالياتها في قطاع المشروعات العامة.
الحالة المصرية
في خضم كل هذا وفي الحالة المصرية بالذات، لم يجر حساب أو مساءلة لمؤسسات الدولة والحكومة وصانعي القرار فيها والمسئولين عن سياساتها تجاه شركات القطاع العام والرقابة عليها، وعن توابع هذا بالنسبة للأداء المترهل والضعيف لبعض هذه الشركات. بل ولم تجري محاسبة على الفساد المستشري في بعض الشركات العامة الناجم عن إصرار مؤسسات الدولة والحكومة على تطبيق نظم عقيمة تسمح بهذا. ولم تحدث مساءلة للقيادات والكيانات الوزارية المسئولة عن تشكيل مجالس إدارات الشركات.
وتمت الخصخصة لشركات القطاع العام وبيع الكثير منها بأثمان بخسة، ولم تجر مساءلة أو حساب على هذه السياسات والقرارات والآثار التي تمخضت عنها، والتي تضمن العديد منها هدرا لأموال وأصول يملكها المجتمع. في كل هذا، تبرز أسئلة هامة متعلقة بالحوكمة. مثلا، من الأصيل ومن الوكيل؟ وهل تصرفات الدولة ومؤسساتها تعبر أو يمكن اعتبارها تصرفات الطرف المالك أو الأصيل في حالات كهذه؟ وهل يتصرف الأصيل على هذا النحو فيما يملك وفيما يتعلق بمصالحه الحقيقية؟
ولدي بحكم التخصص والخبرة المهنية حالات عديدة معاصرة تتعلق بإهدار الفرص والمال العام والتقاعس عن اتخاذ قرارات علاجية لأوضاع شركات القطاع العام. هناك مثلا إجراءات اتخذت لإصلاح بعض الشركات التي تعاني من تراجع الأداء من خلال إعادة هيكلتها استراتيجيا وتنظيميا. وقام بهذه الدراسات بيوت خبرة معروفة ومتخصصة دفع لها ملايين الجنيهات، وتقدمت ببرامج لإصلاح، وتم قبولها من قبل المسئولين عن هذه الشركات في الشركة القابضة المعنية، وعلى مستوى وزارة قطاع الأعمال.
ورغم أن جزء كبير من أسباب ضعف الأداء يرجع إلى ممارسات فساد ترتبط بشبكات من المستفيدين منه داخل الشركات وخارجها (داخل منظومة قطاعها)، وهذا الجانب يتطلب تفكيك والقضاء على هذه الشبكات والتخلص من أطرافها، إلا أن الأمر أنتهى إلى إعمال تغييرات هيكلية جديدة، لا علاقة له بما أوصت به بيوت الخبرة. وبقيت شبكات المصالح المرتبطة بالفساد كما هي تعزز أوضاعها وسيطرتها، حفاظا على عوائدها.
ولا تمثل خصخصة مثل هذه الشركات الحل الأمثل، إذا كان لهذه الشركات رصيد من الأصول المادية والمؤسسية والمعرفية والمعنوية، يمكن إذا أحسن توظيفها من خلال نظم متطورة للإدارة والحوكمة، أن تنهض بأداء وربحية هذه الشركات.
ويبقى السؤال: كيف يتم إدخال حوكمة جيدة وتفعيل القوى المحفزة للنجاح والأداء المتنامي، وكيف يتم تفعيل دور الأصيل الحقيقي، وإخضاع الوكيل (بكل مؤسساته وهياكله على مستوى الدولة والحكومة) للرقابة والمساءلة والحفز، وتقوية سياج النزاهة وآليات إنكشاف الفساد ومكافحته وردعه في منظومة الوكيل، ومنظومة الشركات العامة؟ ولكي يتحقق هذا في الحالة المصرية، لا غنى عن حوكمة جيدة لمؤسسات الدولة ذاتها خاصة المؤسسات التي توجه وتراقب شركات قطاع الأعمال العام (مثل وزارة قطاع الأعمال العام، والشركات القابضة المعنية، والأجهزة الرقابية، والبرلمان).
ويمكن القول أن الحوكمة الجيدة لشركات القطاع العام، تبدأ من حوكمة الأطر المؤسسية التي تعلوها. فحوكمة الشركات بشكل عام لا تعمل في فراغ، وإنما يعززها منظومة الحوكمة في النطاق أو الدائرة الأوسع التي تتحرك الشركات فيها.
وفي الحالة المصرية يمثل الخلل في حوكمة الأطر المؤسسية الأعلى، مصدرا لخلل الحوكمة في الشركات العامة، وسببا في ترهلها وتراجع أدائها وتغلغل الفساد فيها.
شركة الحديد والصلب ضحية لتحول في السياسات العامة
وتعتبر شركة الحديد والصلب المصرية، مثالا معبرا عن كيف تؤثر الساسيات العامة التي تتبناها الدولة تجاه المشروعات العامة على أوضاع وإداء هذه الشركات. فقد تم إنشاء هذه الشركة في الخمسينيات من القرن الماضي لتمثل قاعدة للصناعات الثقيلة في مصر.
وكانت الدولة وقتها قد تبنت سياسات للتصنيع، من خلال قيامها بتأسيس شركات صناعية في قطاعات مختلفة. وفي مراحل فترة الستينيات وأوائل السبعينيات تغيرت الأطر المؤسسية لهذه الشركات أكثر من مرة (المؤسسة الاقتصادية، المؤسسات العامة، المؤسسات النوعية المتخصصة). لكن صاحب هذا في فترة السبعينيات إنصراف الدولة عن الاهتمام بالشركات العامة ودعمها وتطويرها، في خضم تبنيها لسياسة الانفتاح الاقتصادي.
وكان هذا بداية تفكيك القطاع العام وتركه لقوى الترهل وتراجع الأداء والتوقف عن الإحلال والتجديد، والأخطر ترك نظمه جامدة دون تطوير، ومعها ترك بنيته المؤسسية وموارده لتكون مرتعا للفساد وسوء الإدارة.
إمتد هذا بدرجات خلال الثمانينيات والتسعينياات، وتبنت الدولة في أواخر اتلك الفترة وأوائل الألفية سياسة خصخصة الشركات العامة. ولم تعنى بإدخال إصلاح على منظومة الإدارة والحوكمة لهذه الشركات. كانت الاعتبارات الأيديولوجية للحكومة وقتها (التحول إلى اقتصاد السوق وتطبيق سياسات العولمة الاقتصادية سيرا مع الموجة العالمية العارمة وقتها).
لم يكن المجتمع وقتها (الأصيل) قد استفتي على التحول في السياسات الاقتصادية، ولا على البدايات المبكرة خلال السبعينيات بالتحول إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي. خلال تلك المسيرة الطويلة، تم إهمال الإحلال والتجديد لشركة الحديد والصلب. وتركت نظمها وممارساتها وأدائها ليتراجع. والأدهى من كل هذا، أن اعتلى منصة توجيه سياسات الدولة في الحزب الحاكم وبرلمانه قطب ناشيء في صناعة وتجارة الحديد هو أحمد عز.
ترك أحمد عز يوجه سياسات الدولة لعدد من السنوات، وسمح له موقعه القريب من رئاسة الدولة وموقعه القيادي في الحزب وموقعه كرئيس للجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب، ألا تدخل إصلاحات على شركة الحديد والصلب (المنافسة لشركاته)، ولا على شركات القطاع العام ككل.
فهل كان أحمد عز هنا ممثلا للمجتمع (الطرف الأصيل)، أو ممثلا للدولة (الطرف الوكيل عن المجتمع)؟ طبعا لا هذا ولا ذاك، فقد كان أحمد عز بمباركة من مؤسسات النظام والدولة، يمثل مصالحه ليس إلا !!!
وقد تراكمت خسائر ومديونيات شركة الحديد والصلب عبر العقدين الأخيرين. ونتج هذا نتيجة تقاعس المؤسسات المسئولة (الأعلى) عن تطوير نظم إدارة وعمل الشركة وكذلك نظم وتقنيات وخطوط إنتاجها بما يتوافق مع التطورات العالمية في هذا القطاع.
هذا رغم أن تلك الفترة شهدت نمو وتوسع وتطوير شركات القطاع الخاص التي تعمل في نفس المجال لتقابل زيادة متسارعة في الطلب على منتج الحديد، ليس في مصر وحدها بل على مستوى العالم.
حدث هذا تحت أعين ونظر المسئولين في المستويات الأعلى، الذين لم يتدخلوا لإدخال التطوير المطلوب ولإيقاف سيل الخسائر والمديونيات المتصاعدة لشركة الحديد والصلب.
ورغم أن الحلول والعلاجات كانت واضحة، بدعم من مستشارين عالميين استقدموا لتقديم المشورة والحلول لمشكلات الشركة، إلا أن المؤسسات الموجهة (على مستوى الحكومة) وحتى في السنوات الأخيرة لم تتحمس لهذه الحلول. وتركت الشركة لتتفاقم مشاكلها وأوضاعها. المسئولية الحقيقية إذا فيما وصلت إليه الشركة تقع على المؤسسات والمستويات الأعلى.
والمفارقة الكبرى هنا هو تملك الشركة لأصول تتمثل في مناجم ومحاجر وأراضي ذات قيمة هائلة، لا تحظى بها أي شركة من شركات القطاع الصناعي العام أو الخاص. وكان يمكن استخدام جزء من هذه الأصول في تمويل التطوير المطلوب في نظم وتقنيات وخطوط الإنتاج، بشرط إدخال تطويرات هيكلية وجذرية في منظومة حوكمة الشركة، وكذلك (وعلى نفس الدرجة من الأهمية) في السياسات المتعلقة بالقطاع العام، وفي هياكل الحوكمة الأعلى التي يعمل في إطارها هذا القطاع.
قرار التصفية كمثال صارخ لغياب الحوكمة
في يناير الماضي تم دعوة الجمعية العمومية العادية وغير العادية لشركة الحديد والصلب للإنعقاد في نفس اليوم للنظر في جدول أعمال، لم يتضمن أي بند قيه مقترح التصفية صراحة. وصيغت بنود جدول الأعمال على نحو مبهم ومضلل تتضمن تقسيم الشركة إلى شركتين (الحديد والصلب، وشركة جديدة بإسم الجديد والصلب للمناجم والمحاجر). لكن الأمر كان مبيتا (دون إفصاح) على اتخاذ قرار فوقي بتصفية شركة الجديد والصلب.
وتضمن القرار اتخاذ إجراءات تقسيم الشركة وتحديد عقد التقسيم وفق القيمة الدفترية لأصول الشركة. أما الشركة الجديدة للمحاجر والمناجم فقد صدر مؤخرا قرارا بتأسيسها برأس مال قيمته 195 مليون جنيه وقيمة السهم عشرون قرشا.
وواضح أن هذه القيمة المتدنية لرأس المال استندت إلى تقييم الأصول التي إنتقلت إلى الشركة الجديدة على الأساس الدفتري وليس السوقي أو العوائد المستقبلية. أثارت هذه القرارات رد فعل ورأي عام غاضب وعارم لأنه مس قلعة صناعية هامة لها تاريخ وتمثل صرحا قوميا وليس مجرد شركة صناعية عادية. كما أثارت هذه القرارات، وإن كان في نطاق ضيق، ردود فعل مؤيدة لقرار التصفية من الأطراف والقوى المعادية للقطاع العام.
ويرد على هذه القرارات التي اتخذت بشأن الشركة عدد من المآخذ من منظور الحوكمة الجيدة والرشيدة. أولها: أن جدول أعمال الجمعية العمومية لم يتضمن صراحة بند مقترح التصفية. وفي هذا مخالفة صريحة لقواعد الإفصاح. وثانيها: قيام مؤسسات الحكومة بشراء اسهم شركة الحديد والصلب من البورصة، بعد انهيار اسعارها، لتخفيض ملكية الأفراد إلى أقل من 5%، حتى لا تسعى هذه الأقلية لطلب عقد جمعية عمومية غير عادية لمناقشة قرار التصفية والتقسيم (يتيح القانون هذا لحماية حقوق الأقلية في حالة استكمال حصة المطالبين بعقد الجمعية لنسبة 5% على الأقل).
ويمثل هذا نوع صارخ من التحايل من قبل المؤسسات الحكومية المتدخلة بالشراء (بتوجيه من وزير قطاع الأعمال العام)، يستهدف أهدار حق الأقلية في مناقشة قرارات التصفية والتقسيم. وثالثها: التقييم على الأسس الدفترية (وليس السوقية، أو الفعلية) في تحديد قيمة الأصول التي انتقلت إلى شركة المناجم والمحاجر التي تحدد على أساسها قيمة رأس مال هذه الشركة الجديدة.
ولا يعقل أن تكون مناجم الحديد والمعادن الأخرى (وتشمل مناجم ذهب) وكذلك المحاجر العديدة الغنية التي تأسست عليها شركة المحاجر والمناجم قيمتها 195 مليون جنيها فقط لا غير!! فهذه الأصول لا تقل قيمتها الحقيقية عن مليارات الجنيهات، وتقييمها على هذا النحو يحمل بخسا لقيمتها الحقيقية، الغرض منه إظهار نسب عوائد عالية على رأس المال والاستثمار للشركة الجديدة، نتيجة خفض الأرقام المنسوبه إليها الأرباح (في جانب المقام)، وفي هذا عدم شفافية وتحايل مكشوف يخالف قواعد الحوكمة الجيدة.
هذا ناهيك عن خفض قيمة السهم عند التأسيس إلى رقم (عشرون قرشا) لم يعد متداولا في تعاملات المجتمع الآن. ورابعها: أن الأصول العقارية التي تملكها شركة الحديد والصلب، كان يمكن استخدام جزء منها لسداد المديونيات، وكان ينبغي أن يشتمل ما يعرض على الجمعية العمومية على هذا البديل.
وخامسها (وهو الأهم): لم ولن تتم محاسبة ومساءلة المسئولين الأعلى عما آلت إليه شركة الحديد والصلب، فجوهر هذه المسئولية يقع على شاغلي المواقع القيادية في المؤسسات الأعلى في الدولة والحكومة (وكلهم موظفين مهما ارتفعت مواقعهم، ولا يمثلون الطرف الأصيل أوالمالك الحقيقي). فقد دفع هؤلاء بالشركة عبر عقود إلى أوضاعها الراهنة، والتي زادها تعسفا وتفاقما قراراتهم وتحايلاتهم الأخيرة التي تمثل برهانا قويا وكاشفا عن غياب الحوكمة الرشيدة.