من يراقب بإمعان ما صار يجرى من سنوات، لا يملك إلا أن يستهول ما صارت إليه الأحوال من تراجع مخيف دلت عليه أعراض وظواهر مرضية بدأت تشرئب وتتزايد من سنوات.. تحول الحوار إلى شجار، وحلت الكلمات، وربما طلقات الاغتيال، محل الحجج والبراهين والآراء.. ضاق الأفق وضاقت معه الصدور، وضمر الفكر، وعلت نبرة الكلام الذى ضل هدفه وتاهت منه غايته.. لا يكاد أحدٌ يُبدى فكراً أو يطرح رأياً حتى بين دوائر النخبة ونقابات الرأى، إلا وتعاجله فرق الضرب واللكم والكاراتيه، أو الرجم بالكفر، أو قذائف السباب بأقذع الألفاظ.. من يراجع التراشقات والانفلاتات الدائرة فى مصر، يصدمه أنها آية ظاهرة على تراجع العقل وزحف الفراغة وعقم التفكير وتفشى لغة البلطجة.. شيوع هذا التراجع يؤدى إلى تعقيم العقل وتجميد الفكر وإغلاق كل منافذ التقدم والإصلاح!
والسؤال الذى يطرح نفسه بشدة: لماذا تجاوزت حملات البذاءة فى بعض المنافذ الإعلامية كل حدّ؟! ولماذا لم يعد معظم الناس ينشدون سوى إعلام الفضائح والإثارة؟! وأين العقل الفردى والجمعى من تفشى وانتشار هذه الآفات والقذائف اللسانية؟!
من ضيق الفكر وتراجع العقل وجموح التعصب، أن تعجز عن رؤية ما يراه غيرك، وأن لا تواجهه إلا بالرفض وربما بالإدانـة والشجب، قبل أن تتيح لنفسك فرصة مناقشته والتأمل فيه!
ومن مظاهر تراجع العقل أن لا تُرى الأمور إلا من ثُقب إبرة!. من هذا التراجع أن يحتقن المسلمون لتنصُّر واحد كان منهم، وأن يحتقن الأقباط لإسلام واحد كان منهم.. مع أن العالم ملىء بمئات الملايين من المسلمين، ومئات الملايين من المسيحيين، ولن يزيد هؤلاء وأولاء بإقبال واحد، ولن ينقصوا بإدبار آخر!
ومن مظاهر هذا التراجع العقلى أن يُحسب خطأ الفرد على أسرته أو قبيلته أو فئته أو طائفته.. مع أن الخطأ خطأ واحد. . لا ذنب ولا جريرة فيه على أسرته أو قبيلته أو فئته أو طائفته.. من أجل هذا تتعقد الأمور وتزداد وتربو العداوات!!
وفى الوقت الذى تنشغل فيه إسرائيل بهدم وتخريب المسجد الأقصى وتهويد القدس، نتعارك نحن حول النقاب الذى يحجب وجه المرأة.. لأنه عورة.. مع أنه خلقة الله تعالى، جعله سبحانه لحكمة وكرامة!!.. ولا يسأل أحدٌ من المتشنجين نفسه لِمَ إذاً أمر القرآن المجيد بغضّ البصر عن النظر للمرأة؟!
من دلائل التراجع الفكرى والحضارى، أنه بعد قرابة قرن من الزمان الذى تنادى فيه قاسم أمين وغيره من المتنورين بتحرير المرأة من أغلال القرون الماضية نرتد ونعود إلى اعتبار المرأة عورة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.. حتى وجهها وكفيها، وألا نرى سبيلاً إلاّ إخفاء عورة الوجه بستار النقاب، وحجب عورة الكفين بالقفاز!!
ومن الغريب اللافت أن يتعامى المجتمع عن زنى المحارم الذى أخذ يتفشى فى العشوائيات، حيث تتلاحم وتتراكم الأجساد والأنفاس فى المزانق الضيقة، بينما يشرئب فريق من الناس لنعت وجه المرأة بأنه «عورة» توجب أن يُسدل عليه نقاب؟!
والغريب أن الذين يتنادون بحجب وجه حواء وراء نقاب، لا يمانعون فى أن تُعلم وتتعلم، وفى أن تنتخب وتُنْتخب للمجالس النيابية والشعبية، وفى أن تؤدى دوراً فى المجتمع لم يعد بمستطاع أحد أن ينكره.. ولكن لا يكلفون خاطرهم الشريف ببيان كيف يمكن لحواء أن تنهض بهذا كله ووجهها «عورة» محجوبة بنقاب!
وفى الوقت الذى صار فيه العالم قرية صغيرة عبر الفضائيات، ويستطيع المشاهد أن يطالع كل ما فيه وأن ينتقل من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، بمجرد ضغطه على زر مفتاح إلا أننا لا نزال أسرى متجمدين عند الهامشيات والشكليات، لا يجود علينا العقل إلا بأن وجه المرأة عورة يجب أن ينسدل عليه ستار النقاب!
الأكثر غرابة أن تحدث هذه الردة العقلية والحضارية بعد سنوات قطعناها فى الاستنارة وتحرير المرأة، وتحررها فعلاً، وتبوئها مكانة فى المجتمع لا يمكن لبصير أن ينكرها أو يجادل فيها، وفى نفعها للدولة وللمجتمع بعامة، ومع ذلك نرى الردة العقلية والحضارية قد بلغت مداها لتهدم كل ما كنا قد بنيناه!!
ظنى أن حواء مُطالَبة اليوم، أكثر مما مضى، بأن تُبْعث بعثاً جديداً، وأن تطوى الزمن لترجع إلى ما ناضل من أجله قاسم أمين (1863-1908)، وهدى شعراوى (1879-1947)، وسيزا نبراوى واسمها الأصلى زينب محمد مراد (1898-1985)، ناضلوا وغيرهم من أكثر من قرن من الزمان، لتتحرر المرأة من ظلام العصور الوسطى، وتفرض نفسها فرضاً فى كل مجال على المجتمع «الذكورى» الذى اعتاد أن يستأثر الرجال بكل شىء، فاقتحمت حواء التعليم الأوّلى والابتدائى، ثم الثانوى، ثم طرقت الجامعة وتوسعت فى كل المجالات، ورأينا من درر هذا الرعيل الأول، دون ترتيـب، الأديبة الشاعـرة عائشـة التيمورية (1840-1902)، وباحثة البادية ملك حفنى ناصف (1886-1918)، والدكتورة بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن (1913-1998)، والدكتورة سهير القلماوى (1911-1997)، ومفيدة عبدالرحمن المحامية الشهيرة (1914-2002)، ونعيمة الأيوبى أول محامية مصرية، وهى ابنة المؤرخ المعروف إلياس الأيوبى، والكاتبة الصحفية أمينة السعيد (1910-1995)، ونبوية موسى (1890-1951)، أولى الحاصلات على البكالوريا (1907) رغم معارضة دنلوب مستشار وزارة المعارف، وأول ناظرة مدرسة، وأول مفتشة تعليم فى مصر، والدكتورة لطيفة الزيات (1923-1996)، والدكتورة سميرة موسى عالمة الذرة التى قُتلت بالولايات المتحدة (1917-1952)، وفاطمة أو روز اليوسف (1897-1958) رائدة الصحافة والمسرح والتمثيل، ووالدة الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، والروائية القصصية صوفى عبدالله (1925-2003). وفى الفنون تحية حليم، وإنجى أفلاطون (1924-1989)، وجاذبية سرى، والإذاعية تماضر توفيق، وصفية المهندس، ورأينا فى رحاب الفن أم كلثوم، ومنيرة المهدية، ودولت أبيض، وأمينة رزق، وفاطمة رشدى، وزينب صدقى، وآسيا داغر، ومارى كوينى، ومارى منيب، وغيرهن.