ما زال الإعلام البريطانى قادراً على الإلهام، فحتى عندما تقع الأخطاء الكبيرة فى الممارسات الإعلامية فى هذا البلد العريق، فإن ميراثاً منتظماً من البحث والتدقيق يمكن أن يساعد فى احتواء تلك الأخطاء، بل هو يمكن أيضاً أن يؤسس لقواعد لمقاربة أخطاء أخرى ستقع حتماً فى المستقبل.
ففى يوم الخميس الماضى، قضت محكمة بريطانية بإدانة صحيفة «ذا ميل أون صنداى» فى قيامها بنشر مقتطفات من رسالة بعثت بها دوقة ساسيكس، ميجان ماركل، إلى والدها، وهى الرسالة التى كشفت أسراراً عن حياة الدوقة وزوجها الأمير هارى وطبيعة العلاقة بينهما وبين أركان القصر الملكى البريطانى.
وفى أعقاب صدور الحكم قالت الدوقة إن هذا «ليس انتصاراً لى فقط، بل لكل من يشعر بالخوف دوماً من الدفاع عما هو صواب»، أما محاموها فقد أكدوا أن رسالتها إلى والدها كانت «شخصية للغاية، ومن الواضح جداً أنها كانت تستهدف الحفاظ على ما بها من أسرار، وأنها لم تفرط فى خصوصيتها».
وفى تسويغهم للحكم، قال القضاة الذين حكموا لمصلحة الدوقة ميجان ضد الصحيفة البريطانية الشهيرة إن «محتويات الرسالة شخصية وخاصة، ولا تتعلق بالمصلحة العامة المشروعة»، وهو القول الذى يرسى القاعدة الأهم فى هذا الصدد، فطالما أن البيانات والإفادات الخاصة لا تتعلق من قريب أو بعيد بالمصلحة العامة، فلا يجوز للصحافة أن تنشرها على الملأ.
يحفل الإعلام البريطانى بالكثير من الحوادث التى تقع فى هذه المساحة الضيقة بين المصلحة العامة والخاصة فى حياة المشاهير والشخصيات العامة، وكثيراً ما تقع الخلافات والصدامات وتذهب الأطراف إلى وسائط الضبط العام أو التنظيم الذاتى من أجل حسمها، وفى بعض الأحيان تخفق تلك الآليات فى حسم الخلافات، فيتم اللجوء إلى المحاكم.
ورغم انفتاح النظام الإعلامى الفرنسى، مقارنة بنظيره البريطانى، فإنه يمتلك أيضاً مفهوماً مشابهاً ومقاربة مماثلة يستخدمها فى حسم القضايا التى تتقاطع فيها الخصوصية مع حرية وسائل الإعلام فى متابعة أخبار المشاهير.
ففى عام 2012، تصدرت صورة لدوقة كامبريدج، الأميرة كايت، وهى عارية، إلا من القطعة السفلى من رداء السباحة، غلاف إحدى المجلات الفرنسية، بعدما التقط مصورو «الباباراتزى» صورة للأميرة وهى تقضى عطلة فى جنوب فرنسا.
لكن العائلة المالكة البريطانية تضررت من نشر صورة الأميرة بصدرها العارى، فرفعت دعوى أمام القضاء الفرنسى المستعجل، لتبت المحكمة فى القضية بسرعة شديدة، وتصدر حكمها النهائى فيها فى فترة لم تتجاوز أسبوعاً.
وتجاوباً مع تلك الدعوى، قضت المحكمة المدنية، فى «بلد الحريات» فرنسا، بإلزام المجلة بعدم نشر صورة دوقة كامبريدج عارية مجدداً، وبتسليم الصورة الأصلية للقصر الملكى خلال 24 ساعة، وبعدم بيعها لأى صحيفة أخرى داخل البلاد أو خارجها، وبغرامة مقدارها 13 ألف دولار أمريكى عن كل يوم تأخير فى التنفيذ.
لقد اتفق النظامان القضائيان فى كل من المملكة المتحدة وفرنسا على المفهوم ذاته للحق فى الخصوصية فى مواجهة الحق فى حرية التعبير، ورغم أن التنظيم الذاتى وهيئات الضبط الصحفية فى البلدين لم ينجحا فى حسم مثل هذه الخلافات، فإن القانون يبقى ملاذاً أخيراً للمتضررين فى قضايا النشر حتى فى أكثر الدول تقدماً وانفتاحاً إعلامياً واجتماعياً.
فما الذى تستفيده المصلحة العامة من رؤية أميرة بريطانية تسبح بملابس سباحة تماثل تلك التى ترتديها غيرها من البريطانيات، بينما تقضى عطلة؟ وما الذى تستفيده المصلحة العامة من مطالعة رسالة خاصة بعثت بها أميرة إلى والدها لمناقشة أحوال خاصة؟
والشاهد أن الخصوصية قيمة حيوية لا يجب انتهاكها بزعم حرية الرأى والتعبير أو حق الجمهور فى المعرفة، طالما أن السلوك الذى يأتيه الشخص المشهور أو العام لا يتقاطع مع المصلحة العامة فى شىء ولا يسبب لها أى ضرر.
ذلك أن ثمة خيطاً دقيقاً رفيعاً يجب أن يظل واضحاً، وأن نجتهد جميعاً فى اعتباره وعدم تجاوزه أو نسيان وجوده؛ وهو الخيط الفاصل بين الوقائع الخصوصية ذات الصلة بالمصلحة العامة، وتلك التى لا تفيد المصلحة العامة فى شىء.
فهناك عدد من الشروط الصارمة التى تتيح للجمهور معرفة وقائع تخص الحياة الخاصة لشخص عام أو لشخص عادى، وهى ذاتها الشروط التى تتيح لوسائل الإعلام تغطية مثل تلك الوقائع؛ أول هذه الشروط أن تكون الصلة واضحة ومباشرة بين الواقعة الخاصة وبين المصلحة العامة، بمعنى أن يكون كشفها ضرورياً لتحقيق تلك المصلحة أو منع خطأ أو كشف فساد.
ومن تلك الشروط أيضاً أن يكون القدر الذى يتم كشفه من الحياة الخاصة للشخص الذى يتم اختراق خصوصيته هو القدر الكافى فقط لإثبات العلاقة بالمصلحة العامة، وأن يكون هذا القدر محتشماً ومقتصداً بما يكفى لتلبية الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية السائدة فى المجتمع.
ومن أهم تلك الشروط كذلك أن يتم إيراد رأى الشخص الذى تم اختراق خصوصيته، أو من يمثله، فى ذات الحصة الإعلامية التى تم خرق خصوصيته فيها.
إن الاستناد إلى رخصة «خرق الخصوصية»، لتجريح الناس وهتك سترهم، مسألة غاية فى الخطورة، خصوصاً إذا تم استخدامها من قبَل هؤلاء الذين لا يراعون تلك الشروط أو لا يعرفونها.