تقترب ذكرى نصر السادس من أكتوبر، فيتجلى في الأفق البعيد، طيف ملك أسطوري عظيم، يعلو رأسه تاجه الشهير بلونيه الأبيض والأحمر، ترتسم ابتسامة فخر واعتزاز على وجهه وهو يطالع استعدادات أحفاده للاحتفال بذكرى النصر المجيدة.
يبحر عقل الملك كسفينة ذهبية في محيط التاريخ مسافة آلاف السنوات، يصل بسفينته إلى وجهته الأولى، أنها لحظة اتخاذه قرارا تاريخيا بتوحيد مملكتي الشمال والجنوب، وتأسيس كيان سياسي جديد وفريد، نجح في بناء حضارة إنسانية لا زالت تذهل العالم حتى اليوم.
يعود الملك العظيم من أعماق التاريخ إلى عهدنا الحاضر، يراقب استعدادات المصريين للاحتفال بذكرى النصر، يستشعر فخرهم بجيشهم، فتندمج روحه الملكية معهم في بهجة وسرور، ويسري في وجدانه شعور بالعزة والكرامة والمجد.
تكشف عيني الملك اللامعتين عما يدور بداخله: هنا على هذه الأرض الطيبة، أسست أول قوة عسكرية نظامية في التاريخ، إنه الجيش المصري، كان هذا في عام 3200 قبل الميلاد.
يمعن موحد القطرين في تفكيره: اليوم، وبعد أكثر من 5000 عام، وبالرغم من كل الأمواج العاتية، والعواصف القاسية التي ضربت وطني على مر تاريخه الطويل، لا زال جيشه الوطني كما كان في نشأته الأولى: يحمي ولا يعتدي، قوة مهيبة للسلام لا للحرب، يد توحد ولا تفرق، تقضي على الفتن ومن يوقدها.
يمد الملك الذي نشأ في جنوب مصر عيناه نحو الشمال، يتجه بكل جوارحه نحو موطن حبيبته وملكته المتوجة، التي أسست معه الأسرة الملكية الأولى في عصر الأسرات... يجتذب عبق التاريخ إلى صدره وهو يتنفس نفسا عميقا، تتلألأ عيناه، وكأنهما تقولان: لقد كانت نيت-حتب زوجة، وأما، وملكة عظيمة.
يظهر في المشهد عالم الآثار والمؤرخ جميس هنري برستد، يتفحص حجرا أسودا منقوش عليه نصوص هيروغليفية، إنه الحجر ذاته الذي كان يدرسه لسنوات عدة في المتحف البريطاني، يرجح أن المكتوب عليه نص مسرحية ألفت في عهد موحد القطرين، تهدف إلى ترسيخ مكانة الإله بتاح معبود مدينة منف عاصمة الدولة الموحدة.
يوجه برستد نظره إلى الملك، وينحني احتراما له، ولسان حاله يقول: «هنا على هذه الأرض الطيبة بزغ فجر الضمير»، يدرك المؤرخ أن موحد القطرين يعرف قيمة الأخلاق وأهميتها لبناء حضارة عظيمة، لذا كان يستخدم الفنون والآداب من أجل تخليص المصريين من الفكر الخرافي الساذج.
يبدو الارتياح على وجه الملك الأسطوري، بينما يجوب ببصره أرجاء الجمهورية الجديدة، ترقب عيناه اللامعتين حركة البناء والتعمير السريعة التي تحدث في شتى أرجاء مصر، تدهشه شبكات الطرق التي تبدو كشرايين تضخ الحياة في مناطق نائية ومدن معزولة.
يبتسم الملك العظيم، ويردد في أعماق قلبه: أحفادي يحتفلون بذكرى نصر عسكري وسياسي عظيم، فيما تبني أياديهم القوية انتصارات حضارية مبهرة في جمهوريتهم الجديدة.