فى نفس هذا اليوم، 18 من يناير عام 2011م، رفع جهاز أمن الدولة، وهذا كان اسمه حينئذ، تقريره الأخطر إلى رئاسة الجمهورية يصف فيه الحالة الأمنية بالشارع المصرى. وللعلم لم يكن التقرير الأوحد فى تلك الفترة العاصفة، فقد سبقه العديد من التقارير التى بدأت منذ انتخابات برلمان أكتوبر 2010م، واستمرت إلى ما بعد حادث كنيسة القديسين فى احتفالات أعياد الميلاد لتلك السنة المشحونة، وإن كانت التقارير الأمنية التى سبقت التقرير المشار إليه قد بدأت رصد الغضب الشعبى الذى تمتد مساحته يومياً، وقد أشير فيها لذلك، إلا أن تقرير يوم 18 يناير كانت تبدو فيه الصورة وقد تكاملت تقريباً حول مفاتيح الغضب وتوقع قريب جداً مما هو مقبل، العناوين الأهم فى هذا التقرير جاءت بنص الكلمات لتتحدث عن الافتقاد الكامل للثقة فى الحكومة الموجودة وقتها، وتنامى مساحة الضجر عند جميع القوى السياسية من نتائج الانتخابات البرلمانية التى حاز فيها الحزب الوطنى أغلبيته الكاسحة، وتوصيف هذا البرلمان عند الرأى الجمعى بأنه برلمان التوريث، وهى أيضاً القضية الأكثر ضغطاً على أعصاب الشارع، ولفت التقرير الانتباه إلى أن تكرار التصريحات التى تتحدث بأن مصر ليست تونس يشحن هذا الضغط، خاصة مع تداولها من شخصيات لا تتمتع بالقبول الشعبى من داخل لجنة سياسات الحزب الوطنى.
هذه الصورة الموجزة والمجتزأة من مساحة عمل عريض كان يقوم به هذا الجهاز فى هذه الفترة، ظلت خافية خلف طبقات عديدة من الصورة الأحادية المتداولة عن الجهاز القمعى وسطوة التحكم فى كل خيوط الحركة وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى كل أركان المشهد العام، ولأن المقام ليس هو تقييم مساحة المهنية والعمل الأمنى المحترف وقدر التجاوز فى هذا الدور ومَن كان يدفع ناحية التوغل ويستفيد منه، يبقى اليوم الحديث خاصاً بجزء هو الأكثر التصاقاً بمهمة جهاز أمنى معنى ومكلف بالعمل على كل ما يحافظ على أمن الدولة، الرصد الدقيق وجد طريقه إلى التقارير الأمنية ووثق فيها أسباباً جدية للاحتقان، وتحدث بكلمات مباشرة عن درجة حرارة أمنية تقترب من مراحل الخطر، لكن الأمر بطبيعته لا يقف عند هذا الحد، فالخطوة التالية من المفترض أن تكون إطلاع القيادة السياسية المعنية على هذا التقدير والعمل السياسى على معالجة ما جاء فيه إن ثبت صحته وجدية تقديره، وهو ما لم يتم بصورته المتوقعة داخل أروقة نظام مبارك الذى كان يعانى بشدة فى تلك الفترة من ارتباك حاد فى خطوط التواصل، كل إشارات ودلائل ما تم بعد ذلك توحى يقيناً بأن تلك التقارير ظلت معلقة فى الهواء لم تصل إلى مستقرها إلا بأقل القليل من كلمات منقولة عن طريق حُجّاب تلك الأروقة، وهذا اليقين المشار إليه لا يعفى الرئيس الأسبق مبارك على الإطلاق من مسئوليته عن هذه الفوضى وتضارب الاختصاصات فى المربع الأخطر داخل إدارة الدولة.. لكن هذا مع تفصيلات كثيرة يدور معظمها حول ملف التوريث والاستحواذ المتنامى داخل نظام الحكم، شكّل الضربة القاتلة لنظام استمر 30 عاماً يسوّق للمصريين أحلام النمو والاستقرار ويتحدث عن التطوير فى معظم أطروحاته.
من المفهوم أن أى نظام حكم لا بد أن يقيس درجة حرارة الشارع من خلال أكثر من جهاز معلوماتى لتصله صورة أقرب إلى المتكاملة، ولذلك أظن أن تلك الأجهزة مطالبة اليوم قبل الغد بأن تجيب للرئاسة عن مجموعة من الأسئلة، أبرزها يدور حول مساحة الثقة الحقيقية التى ما زالت معلقة فقط على شخص الرئيس عبدالفتاح السيسى، ولم تنسحب على أى مسئول آخر أو أى جهاز تنفيذى يعمل داخل خطة الوطن العامة، ولماذا يتسلل الإحباط بهدوء يومياً ليأخذ معه مؤشر الحرارة إلى أعلى فى صورة تضع الجميع فى موقع الارتباك!