على ما يبدو أن حالة الفراغ السياسي الذي تعاني منه أحزابنا السياسية، بلا استثناء، تزايدت مضاعفتها بشدة وكونت حالة جديدة، أرى أن الوصف الأدق الذي يمكن أن نطلقه عليها هو حالة "الخيالات والتهيؤات السياسية"، دافعي لهذا التوصيف هو المبادرة التي أطلقها بعض السياسيين لوقف تنفيذ أحكام الإعدام بدعوة تقليل حدة الاحتقان السياسي، المثير أن كثيرًا من سياسيينا الذين يعانون أصلًا من البطالة انبروا مدافعين عن المبادرة مكررين ذات الهدف من وراء تنفيذها المقترح "تقليل حدة الاحتقان السياسي"!.
تعجبت بشدة للوهلة الأولى حيال هذه المبادرة أو المطالبة، وتعجبي هذا شمل الشكل والمضمون، فالقول بوقف تنفيذ أحكام الإعدام لفظ فضفاض وعبارة عامة جدًا وتحتاج إلى تحديد.. هل المقصود هو كل أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم المصرية وتصبح واحبة النفاذ في كل القضايا الجنائية والإرهابية؟.. أم هل المقصود هو أحكام الإعدام التي أدين بها قتلة الأبرياء من المواطنين ورجال الجيش والشرطة؟.. أم هل المقصود هو أحكام الإعدام التي قد تؤيد بحق رموز وقيادات جماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسهم محمد مرسي رئيس الجمهورية الأسبق؟.. الحقيقة أن الدعوة في شكلها جاءت "عائمة" خالية من أي تحديد واضح .
أما التعجب الذي ألم بي بسبب مضمون هذه الدعوة أو المبادرة، فهو أن هذه المبادرة تحوي في مضمونها ضربة في مقتل وطعنًا مباشرًا في الأساس الذي ترتكز عليه الدولة وهو مبدأ سيادة القانون، وتحمل تأكيدات بشكل غير مباشر للادعاءات التي يرددها البعض بأن القضاء مُسيس وليس مستقلًا!، إضافة إلى أنها - أي المبادرة - تهدر القاعدة الأهم لتحقيق العدالة في المجتمع، وفي أي مجتمع، وهي القصاص من الجاني الذي استباح لنفسه - هو من وراءه سواء فرد أو جماعة - أن يقتل أو يحرق أو يُدمّر، بدعاوى وأهداف غريبة !
الأهم من هذا وذاك، فإن هذه الدعوة ومطلقها ومن يؤيدها، تجاوزت وعن عمد، وربما عن جهل، أرواح ما يزيد على ألفي ضحية من المواطنين ورجال الجيش والشرطة، أزهقت بدم بارد خلال العامين الماضيين في هجمات إرهابية وليس في ممارسة سياسية، هذه الدعوة أغفلت أفراد أسر أولئك الضحايا الذين اسودت حياتهم وخيّم الظلام على بيوتهم بعد فقدان ذويهم وهم يدافعون عن الوطن وكرامته ووحدته، هل تصور صاحب تلك الدعوة ما هو رد فعل أفراد أسر أولئك الضحايا إذا ما نُفِّذت هذه المبادرة - لا قدر الله-!.
الأمر الأهم ، هو أن مُطلق الدعوة ومؤيدوه لم يكلفوا أنفسهم عناء التفكر فيما جرى من تصرفات مماثلة خلال العامين 2012 و2013، بعد صدور قرارات جمهورية - سواء من المجلس العسكري أو من محمد مرسي - بالعفو عن ارهابيين قتلة أزهقوا أرواح أبرياء في سنوات التسعينيات، وكانوا يرتكبون تلك الجرائم بدوافع دينية وشرعية، كانت كلها ادعاءات كاذبة، لقد تجاهل مطلق الدعوة ومؤيدوه ماذا فعل أولئك بعدما خرجوا من السجون، تجاهلوا أن أولئك هم من قاد وخطط ونفذ العمليات الإرهابية التي لا تزال تنهش في جسد هذا الوطن الجريح!.
الأهم من كل هذا.. فإن الدعوة لوقف تنفيذ أحكام الإعدام بدعوى تقليل حدة الاحتقان السياسي، صدرت عن سياسيين، عفا عليهم الزمن، ولم يعودوا صالحين للاستهلاك السياسي - إن صح التعبير - فأين هي الممارسة السياسية التي تطالبون بتقليل حدة الاحتقان بداخلها، لقد تجاوز عدد الاحزاب المصرية السبعين حزبًا وفي أقوال أخرى الثمانين وفي أقوال ثالثة التسعين حزبًا، وأتحدى رئيس لجنة شئون الأحزاب أن يخرج للرأي العام ويذكر الأعداد الحقيقية للأحزاب السياسية وأسمائها دون الاستعانة بورق مكتوب!.
لقد تضاعف الفشل السياسي لدى قادة الأحزاب السياسية وشكل حالة مرضية عويصة جدًا - ودعوني أنوه إلى أنني أعمم القول عن قادة الأحزاب جميعًا وأقصد هذا التعميم - وبدلًا من أن نرى أولئك يحاولون النزول إلى الناس في الشوارع ببرامج ورؤى تتيح لهم تكوين قواعد جماهيرية تساندهم في أية استحقاقات سياسية حقيقية، نجدهم يجلسون خلف مكاتبهم أو أمام كاميرات التلفزيون أو يتداخلون عبر سماعات هواتف البرامج الليلية، يتحدثون أحاديث الإفلاس والفشل السياسي، ليس هذا فحسب، بل إنهم يخترعون اختراعاتهم تفتقد فهم وإدراك أبجديات وقواعد الممارسة السياسية والحياتية .