مؤقتاً: سقط نظام مبارك!
وظاهرياً: «الشعب» هو الذى أسقطه!
والحقيقة: لا نظام مبارك سقط، ولا الشعب هو الذى أسقطه.
أولاً: كان «إعلان تنحى مبارك» بعد ثمانية عشر يوماً من الشد والجذب وإسالة الدماء وفقء العيون وقنابل الغاز والنواح الجماعى.. أشبه بـ«الأورجازم»، أى ذروة النشوة فى فعل الجنس؛ هلل الشعب قليلاً، ثم طار خفيفاً كعصفور، وعندما حط على الأرض وراح يبحث عن «ثورته المجيدة».. لم يعثر لها على أثر، كان «الإخوان والذين معهم» قد اختطفوها، أو التهموها «كما يلتهم الذئب دجاجة»، على حد قول وحيد حامد، وتبين أن هدفهم لم يكن إسقاط مبارك ونظامه، بل إسقاط «الدولة» نفسها، واستبدالها بـ«إمارة إسلامية».. لا مكان فيها إلا للثريد ولبن الماعز والنقاب والهودج ومشاعل الزيت وقطع الأيدى وأخذ الجزية.. «عن يدٍ وهم صاغرون».
ليس غريباً إذن أن تستيقظ كل يوم على «وجه شبه» جديد وسافر بين «نتائج» هذه الثورة و«مقدماتها»، حتى إن بعض متظاهرى «جمعة كشف الحساب»، التى اعتدى فيها «الإخوان» على الثوار وأوقعوا بينهم أكثر من مائة مصاب، عبروا عن ذلك برفع صورة للرئيس.. كتبوا تحتها: «محمد مرسى مبارك».
ليس غريباً ألا تشعر بالفرق بين «لحية» الرئيس مرسى الأكثر بياضاً من سجله السياسى، و«شعر» مبارك المصبوغ بسواد سنوات حكمه الثلاثين، بين «محظورة» الأول و«أتوبيساتها»، و«منحل» الثانى و«ميكروباصاته»، بين «مستشارى» مرسى الذين أوقعوه فى معارك ومآزق كثيرة، خسرها كلها، بالنقاط حيناً وبالقاضية حيناً آخر، وبين «بطانة» مبارك التى أوصلته إلى هذا المصير المحزن، بين شطارة «خيرت» وغموضه، ودهاء «عز» وتبجحه، بين رفع الأذان فى مجلس شعب الدكتور الكتاتنى، وقزقزة اللب والسودانى والتراشق بالشوكولاتة فى مجلس شعب الدكتور سرور، بين «المحظورين» طوعاً فى استاد القاهرة للتسبيح بحمد الرئيس الدكتور، و«المحشورين» كرهاً تحت الكبارى وفوقهم موكب الرئيس القائد و«ضربته الجوية».
ثانياً: إذا كنت تعتقد أن الشعب هو الذى أسقط نظام مبارك فأنت واهم، نظام مبارك سقط من تلقاء نفسه، لأنه كان قد ترهل وشاخ و«اشتعل الرأس شيباً»، فلم تعد تنفعه «صبغة شعر الرئيس» ولا «كيد سوزان العظيم» ولا «وسامة جمال الأثقل من مازوت قمائن الطوب» ولا «قمصان نوم داخلية العادلى» ولا «أسياخ حديد عز المحمية» ولا «دهاء زكريا للركب» ولا «تليفزيون الفقى لما يسعد»، وانهار فى ثمانية عشر يوماً، سقط كتفاحة عفنة على فرع يابس، سقط بحجر «مقلاع» أتاه من حيث لا يحتسب، من الـ«فيس بوك». وكان الهدف فى البداية كسر هذا الفرع اليابس ممثلاً فى «داخلية العادلى»، بدليل اختيار «25 يناير» -اليوم الذى تحتفل فيه الشرطة بعيدها السنوى منذ 195- «ساعة صفر»، لكن غباء النظام وعناده وغروره القاتل جعلها ساعة «صفر على الشمال»، وجعل منه هدفاً ومغنماً، ليس فقط لخصومه التقليديين «الإخوان والذين معهم»، والنخبة التى «سمنت» و«ربربت» من فضلات موائده، وبعض شرائح الطبقة المتوسطة، وجحافل العاملين فى الجهاز الإدارى.. بل حتى لكلاب السكك، ممن يشكلون -بقيمهم وسلوكياتهم ومستويات وعيهم وأنماطهم الأخلاقية- «جبهة» معادية لـ«فكرة الدولة» فى حد ذاتها. ومع أن «البقرة لما تقع تكتر سكاكينها»، فإن كتائب «الإخوان والذين معهم» أحاطت بـ«الذبيحة» من كل جانب و«كوشت» عليها، رئيساً وحكومة وبرلماناً وجهازاً إدارياً، وتركت «الشعب» -الذى كان وما زال يعتقد أنه هو الذى أسقط النظام- غارقاً فى هذا الوهم اللذيذ، وعندما قرصه الجوع لم يجد أمامه سوى اختيارين: أن يشترى لحم هذا النظام بالسعر الذى حددته (أو بالأحرى لم تحدده) هذه الكتائب (بلغ سعر «أنبوبة بوتاجاز مرسى» على سبيل المثال عشرة أضعاف «أنبوبة مبارك»)، أو يتسلى بـ«مصمصة» و«قرقشة» قفة العظم التى بقيت من الذبيحة فى مزرعة طرة.. «وكلاً وعد الله الحسنى».
ثالثاً: من «الشعب»؟ هل لدى سيادتك تعريف أو توصيف محدد له؟ هل تعرف أين -وبمن- يبدأ وينتهى؟ ومن الذى يمثله بالضبط، العبد الفقير «نجيب محفوظ» أم «الإله نخنوخ العظيم»؟ من الفاسد، الشعب أم النظام، الجذر أم الفرع، الفطرة أم «النفس وما سواها»؟ وإلى أى قولٍ نحتكم، إلى «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» أم إلى «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة»؟
إذا سألتنى سأقول: إننى لا أصدق أن شعب «الثمانية عشر يوماً الأولى» -الشعب الذى كان يشبه فسيفساء جميلة تغطى ميدان التحرير- هو الشعب نفسه الذى ما إن رأى ناراً وشم رائحة لحمٍ يُشوَى.. حتى هرول كقطيع ثيران دهس هذه الفسيفساء، وتحول بين عشية وضحاها إلى خليط من بلطجية السياسة، وأشباه المثقفين، وتجار الدين والبخور و«عذاب القبر»، والآكلين على كل الموائد، والباحثين عن مصالح تافهة وصغيرة.
إذا سألتنى سأقول إننى لم أعد أثق فى هذا الشعب، ولا أستطيع أن أراهن عليه، لأننى لا أفهم دوافعه، لا وهو خانع ولا عندما يثور (إذا ثار)، وأرى أنه لا يستحق كل هذا التقديس. بل أتعجب فى الحقيقة من إصرار النخبة على تحويل هذا الكائن الغامض، المتوحش، إلى «مطلق».. إلى «جبلاوى» حقيقى، لا ينبغى لأحد أن يكفر بمشيئته أو يعبث فى دولاب أسراره.
إذا سألتنى سأقول إن «الشعب» كان وسيظل «ركوبة» الحاكم، و«بيزنس» النخبة، و«عدو» نفسه.. فليذهب ثلاثتهم -الشعب والحاكم والنخبة، ورابعهم «ثورتهم»- إلى الجحيم.. وعاشت مصر دولة خانعة، جائعة، متخلفة.. ومنكوبة!