أحد المشاهد العبقرية للمخرج الإنجليزى «آلان باركر» فى فيلمه الأكثر روعة «الحائط» جاءت به لقطة دالة ومبدعة، تترجم الصرخة المدوية التى هى عنوان للأغنية المصوّرة، الأغنية بعنوان «لا نريد مزيداً من التعليم»، ولقطة البداية لها عبارة عن مدرس متجهم الوجه داخل أحد الفصول الدراسية، يقوم بضبط البطل الصبى وهو يقرأ أو يكتب شعراً أثناء الحصة الدراسية، فيُلهب أصابعه بضربة عصا موجعة مع وابل من الاستهزاء، وعلى وقع هذه الضربات تبدأ الأغنية الشهيرة بتدافع مشاهدها من ثورة الطلاب بالفصل، حتى الوصول إلى تحطيم المدرسة وجمع الكتب الدراسية بفنائها وإحراقها، ولأن الفيلم وكلمات الأغنية يحملان أبعاداً فلسفية عريضة، فكان المقصود باختصار هو الاحتجاج على «التنميط» وتشكيل النماذج المكرّرة المشوّهة.
اللقطة العبقرية المشار إليها وسط هذا السياق عبارة عن طوابير مدرسية طويلة من الصبية والفتيات، هم الذين يقومون بالغناء بالمناسبة ليأخذ الأداء شكل النشيد المدرسى، هذه الطوابير بدأت عادية، ثم انتقل المخرج إلى تصوير رؤوس التلاميذ بوجوه مشوّهة متماثلة، لتظهر من دون فم، وبعيون مثقوبة، لكنهم يحفظون نظام السير الصارم فى الطابور، وإذا بهذا الطابور يترك طرقات المدرسة ليدخل مستمراً فى سيره إلى آلة جهنمية عملاقة يصعد سلالمها، وتتحرك بالتلاميذ سيورها المتحركة، حتى يصل الطابور إلى ما يشبه الوعاء الضخم، فيسقط به التلاميذ تباعاً بآلية تناسب المشهد، هذا الوعاء يشبه الخلاط الضخم فى المصانع الذى يقوم بخلط وطحن المواد الأولية ليخرجها من مكان آخر منتجاً ما، وهذا ما نقلته اللقطة التالية التى صوّرت نهاية هذا الوعاء عبارة عن الجزء النهائى من مفرمة اللحوم، ليظهر هذا الطابور الطويل، وقد سقط واختلط، ولم ينقطع سيره فى تحرّكه القدرى ليخرج من الفتحات الضيقة بلونه الأحمر لحماً مفروماً.
الصبى الذى ارتكب حادث فندق الغردقة الأسبوع الماضى وقضى نحبه برصاص الأمن وهو يعتدى على إحدى السائحات بسلاح أبيض، وقبلها يروّع الموجودين بعنف وهو يصرخ ويشير أسفل ملابسه بأنه يرتدى حزاماً ناسفاً، كان فى هذا المكان صحبة أحد أصدقائه المسلح بطبنجة صوت لها شكل مرعب، لكنها مزيفة كالحزام الذى تبيّن أنه وهمى هو الآخر، كلاهما تشاركا فى تخطيط ساذج تماماً لارتكاب عمل إرهابى ثبت بفحص خلفيات ظروفهما الاجتماعية والثقافة الشخصية، أن تلك الخلفيات أكثر سذاجة وتشويشاً مما يتصور أحد، وهى بكل المقاييس الطبيعية لا تنتج إرهابياً حقيقياً، لكن المشهد بإجماله خارج عن الطبيعة تماماً، هو فقط مشهد مغرق فى الواقعية الكاملة إن كانت لدينا لحظات كى نتعرّف على مفردات هذا الصراخ الذى كان يطلقه طابور السير المنتظم المتجه إلى المفرمة، ويسقط الأول، ثم الذى يليه، ويمتد الطابور ويتعدد الساقطون من دون تفكير للحظة أن يمد أحد يداً للمساعدة.
محافظتا القاهرة والجيزة وحدهما تضمان اليوم ما لا يقل عن (مليون صبى) لم يتجاوز عمرهم العشرين عاماً، نماذج متطابقة تماماً مع نموذج صبى الغردقة، هل صدمك الرقم حضرتك، أجزم بأن هذا الرقم لا يوجد به أدنى مبالغة، بل تخفيفاً وتوخياً للدقة لم أضع الرقم أمام محافظة واحدة، هذا الصبى الساذج الحائر الهائم يسير بيننا فى الشوارع بهذه الأعداد الصادمة التى لم يتقدم أحد لمساعدتهم حتى لأن يعرفوا كيف يرون القادم، وهو ما يستتبعه أن يبدأوا العمل على أنفسهم بمعاونة مجتمعهم، هذا الأخير هو الغائب والمتهم الأول بامتياز، ويتغافل عن مسئولياته، لتستمر الآلة الجهنمية فى الإنتاج المشّوه، ويطول الطابور ليصل بالفعل إلى الأرقام المليونية، ويدفع بهؤلاء السذج للمعادلة المختلة فى ظل واقع لا يرحم، طالما ظل من دون أيادٍ حانية واعية تساعد وترشد وتفرض الصحيح والمفيد بالقوة.
المجتمع المتغافل يظن أن أفكار التطرّف والإحباط واللاجدوى قاصرة فقط على المنحرفين، فيدفع الأمر برمته إلى جهاز الأمن الذى هو جزء، وليس كل معادلة المواجهة، فرصاصات الأمن والنصوص القانونية والزنازين أدوية حقيقية معتمدة لا شك فى ذلك، لكنها تماماً كأدوية السرطان، أعراضها الجانبية تُسقط الشعر وتشوه الوجه وتفقد الذاكرة وتشوش التركيز، فأى مجتمع يريد أن يعيش فى ظل تلك الأعراض الجانبية الفادحة فليستكفِ بالعقاقير الكيميائية ويغفل عن العلاجات الحيوية التى قد تُصحح العلاج، حتى إن كانت الضريبة وقتاً أطول ونفقات أعلى، لكن الإفلات من سطوة الأعراض الجانبية يعتبر فوزاً عظيماً ونجاة من خلايا قاتلة.. لكن من يساعد وقبله من قصر ومن يتقاعس اليوم ويترك الطابور الطويل يمتد رغماً عنا، هذا حديث مؤلم آخر نستكمله لاحقاً إن شاء الله تعالى.