تابعنا جميعًا على مدار الأيام السابقة، الأزمة الطاحنة بين مزارعي القمح والحكومة، وهي للأسف ليست أزمة جديدة بل أزمة متجددة تلوح في الأفق كل عام مع بداية موسم حصاد القمح، فما هي تفاصيل تلك الأزمة؟.
تتربع مصر على عرش الدول المستوردة للقمح حيث تستهلك 15 مليون طن سنويًا، تستورد منها 10- 11 مليون طن، مما يدق ناقوس الخطر نظرًا لأهميّة القمح كسلعة إستراتيجية مهمّة لتحقيق الأمن الغذائي المرجو.
وفي العقود الأخيرة تعاقبت الحكومات وتوالت الوعود بتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، ولكنه ظل حتى الآن حلم بعيد المنال نظرًا لزيادة الاستهلاك بسبب الزيادة السكانية، إضافة إلى ارتفاع معدل استهلاك الفرد من القمح في مصر (180 كجم/ سنويًا) وهو ضعف المعدل العالمي، كل ذلك يصاحب تناقص الإنتاج لعزوف المزارعين عن زراعة القمح لأن زراعته لا تحقق لهم أرباحًا لضعف إنتاجية الفدان وارتفاع تكاليف الزراعة مقارنة بدولٍ أخرى منتجة.
لذا رأت الحكومات المتعاقبة أنّه لا مفر من وضع سياسة زراعية تُشجِّع المزارعين على زراعة القمح عن طريق حافز مادي لمزارعي القمح يضمن لهم تحقيق ربح من زراعته.
اختلف شكل هذا الحافز من حكومة لأخرى، أما عن حكومتنا الحالية فقد قررت في العام السابق قبل بداية الموسم الزراعي الحالي للقمح الذي يبدأ في نوفمبر أن يكون هذا الحافز على شكل دعم مادي لمزارع القمح (1300 جنيه على الفدان) مع شراء القمح من المزارعين بالسعر العالمي (250 جنيهًا للإردب) ولكن هذا لم يشجع المزارعين على زراعته، لأنّهم وجدوا أنّه حتى بعد حصولهم على هذا الدعم، لن تحقق لهم زراعة القمح أي ربح بعد حسبة بسيطة تشمل التكاليف في جهة، والإنتاجية مضروبة في سعر البيع مضاف إليها الدعم في جهة أخرى.
فحاولت الحكومة تدارك الموقف قبل فوات الأوان وغيّرت شكل الحافز، وأعلنت التزامها بشراء القمح المنتج محليًا من المزارعين أصحاب الحيازات بسعر 420 جنيهًا للإردب (إردب القمح يساوي 150 كيلوجرامًا ومتوسط إنتاج الفدان 18 إردبًا).
شجّع هذا القرار، المزارعين على زراعة القمح ولكن للأسف ليس بالشكل الكافي، نظرًا لأن الكثير منهم اتجه لزراعات أخرى بديلة بعد القرار الأول المتخبّط من الحكومة وقبل عدولها عنه، البكاء على اللبن المسكوب لن يفيد الآن، دعونا نستعد لموسم الحصاد الذي تتوقع الحكومة فيه توريد ما يقارب من 4 ملايين طن من قمح مزاريعها.
وها قد جاء موسم الحصاد ودقت ساعة العمل، توقعنا جميعًا أن تفتح الصوامع الحكومية أبوابها على مصراعيها لقمح المزارعين وتسألهم هل من مزيد؟!
ولكن الحكومة أبت ألا تلقي مقولة "اللي يلعب مع الحكومة ما يخلاش من المفاجئات" بظلالها على موسم التوريد، حيث بدأت طوابير من سيارات النقل المحمّلة بأقماح المزارعين في التكدّس أمام الشون الحكوميّة التابعة لوزارة التموين، نتيجة عدم وجود صوامع كافية للتخزين فضلًا عن البطء الشديد في عملية التوريد وسوء التنظيم وعدم توافر مستحقات المزارعين المالية نظير التوريد.
وعلى الرغم من مرور أكثر من أسبوعين من بداية الأزمة وتكوين لجنة وزارية عاجلة لحل الأزمة، ما تزال مؤسسات الدولة تلقي باللوم على بعضها وتتبادل الاتهامات والتي كان آخرها اتهام من مصدر مسؤول بوزارة الزراعة، لوزارة التموين بأنّها تسببت في أزمة كبيرة في توريد القمح، بعد أن استوردت مليونًا و200 ألف طن قمح، مع بداية موسم حصاد القمح، لتصنع أزمة كبيرة تتمثل في تخزينها للأقماح المستوردة بالشون، وترك الأقماح المحلية مكدَّسة بالشوارع.
وما يزال المزارعون يتكبّدون خسائر فادحة لزيادة تكاليف النقل نتيجة اضطرارهم للانتظار لفترات طويلة أمام الشون تصل لخمسة أيام ونتيجة لوجود محصولهم في العراء وتعرضه للسرقة والتلف.
وما يزال التجّار يبتزون المزارعين لإدراكهم للموقف الضعيف الذي وضعت الحكومة مزاريعها فيه نظرًا لحاجتهم للمال بسرعة حتى يستطيعوا سداد مديونياتهم والاستعداد للموسم الزراعي الصيفي فيشترون منهم المحصول بسعر أقل بكثير من سعر الدولة ثم يعودوا هم ليبيعوه للدولة بعد خلطه بقمح مستورد أرخص وأقل جودة بسعر عالٍ.
ما يزال مستوردو القمح مطمئنين على ثبات عرش تجارتهم.
ما يزال الدعم لا يصل لمستحقيه.
وما تزال الدولة تتكبد خسائر فادحة على جميع الأصعدة أهمها أنّها فقدت ثقة عم عبده الفلاح.