لأن الديمقراطية ليست فقط صندوقاً أصم يلقى فيه الناس ببعض الأوراق فتنصلح كل الأحوال وتشفى كل الأوجاع، بل هو فقط أحد أشكال الممارسة لعملية متكاملة تبدأ بنمط التربية فى الأسرة والمجتمع، ومقاومة الجهل والأمية، وتكريس مبدأ الاختيار الحر بين كل البدائل للفرد والجماعة النوعية فى ظل قانون واحد يرتضيه الناس ويطبقونه -دون أى تمييز- على الجميع، وتداول سلمى للسلطة فى جميع أشكالها إلى آخر سلسلة طويلة من المعايير والتطبيقات يحتاج المجتمع لسنوات كى تصبح جزءاً من ثقافته، خاصة وقد تربى على مفارقة الحدية الشديدة بين الحق والباطل وبين الصحيح والخطأ، ولم يقترب بأى قدر معقول من فكرة نسبية الأشياء والموجودات والقدرة على التعايش مع الآخر المختلف فى احترام متبادل يستبعد فكرة الحقيقة المطلقة، ناهيك عن حق فصيل بعينه فى احتكار تلك الحقيقة الوهمية.
لا وقت للبكاء على اللبن المسكوب ولا معنى لتعذيب النفس على سوء الاختيار وإضاعة الوقت فى التشرذم ومحاولة إثبات كل مرشح أنه وحده الجدير بالاستمرار وعدم التجرد وتغليب مصلحة الوطن أمام خطر الفاشية الماثل فى الصندوق الأصم، فنحن محدثون فى الممارسة الديمقراطية، لم نتدرب على آلياتها ولم ندرك مخاطرها والأهم أننا -بعد- لم نتسلح بالخيال اللازم لتجاوز عيوبها.. فالديمقراطية -وخاصة فى مجتمعات مثل مصر- ليست نظاماً بلا عيوب، بل إن استغلال هذه العيوب أصبح حرفة تجيدها الأنظمة القمعية لتمرير أبشع السياسات، والحق أن الديمقراطية هى فى جوهرها الروح الحرة والضمير النقى الذى يحتاج إلى سنوات من الكبد والمعاناة والدأب والإصرار والتطوير الدائم لكى تحلق هذه الأرواح الحرة فى سماء الحرية.
بسبب من عيوب الديمقراطية وعيوبنا طبعاً وصلنا إلى توازن شديد الرعب بين اختيارين شديدى المرارة ومهما حاولنا فلن يستريح أى ضمير حر فى إعطاء صوته لأحد الطرفين.. لن نصدق وعود من يعتقدون أن الكذب على المخالفين هو نوع من الضرورة يجازيهم الله عليها خيراً، لأن رغبتهم فى «التمكين» قد تملكتهم كشهوة يدفعون فى سبيلها كل أنواع المباذل غاليها ورخيصها.. ولن نصدق أيضاً من تربوا على الفاشية وشربوها ولم يعرفوا غيرها.. من يعاملون مصر مثل «القشلاق» ومن يكنون مشاعر العداء لأعظم ثورة فى التاريخ الحديث.. نحن نثق فى قوة ثورتنا وسنقاوم أيهما إذا أسفر عنه وجه الصندوق القبيح ولكننا لن نتحمل وزر الاشتراك فى الإتيان به.. سنبطل أصواتنا فذلك حق لنا عندما نرفض أن نساق كالقطيع لإقرار ما يخالف روحنا وضمائرنا ولن نلتفت إلى ما قد يؤدى إليه ذلك، فنحن نؤمن أن إرادتنا المتمثلة فى الأصوات الباطلة سوف يتاح لها فى وقت قريب أن تنظم نفسها وأن تتعلم من أخطائها وأن تكسب المستقبل.. بلا يأس وبكل الإيمان بأنفسنا وبالناس والتاريخ.